منازعات التسعير التحويلي والجوهر الاقتصادي في مصر
لم يعد تسعير المعاملات بين الأشخاص المرتبطة في مصر مسألة تُحسم داخل ملفات فنية أو جداول مقارنة، بل أصبح ساحة نزاع تتداخل فيها القراءة الاقتصادية مع التقدير القانوني والإجرائي. والواقع العملي يُظهر أن أغلب النزاعات لا تنشأ بسبب مخالفة صريحة أو سعر شاذ بصورة فجّة، وإنما بسبب اختلاف جوهري في تفسير الدور الاقتصادي للشركة المصرية داخل المجموعة، وما إذا كانت الأرباح المعلنة تعكس القيمة التي خُلقت داخل مصر بالفعل.
السيناريوهات التالية لا تمثل فرضيات نظرية، بل أنماطًا متكررة في الفحص، تتشابه في منطقها حتى وإن اختلفت قطاعاتها.
سيناريو الخدمات الإدارية داخل المجموعة
في هذا السيناريو، تكون الشركة المصرية جزءًا من مجموعة إقليمية أو دولية، وتتلقى خدمات إدارية من الشركة الأم أو من مركز إقليمي، تشمل الدعم القانوني، الموارد البشرية، تقنية المعلومات، أو التخطيط الاستراتيجي. يتم تحميل تكلفة هذه الخدمات على الشركة المصرية مع هامش ربح بسيط، وتُدرج ضمن المصروفات القابلة للخصم.
يبدأ الفحص بطلب العقود والفواتير، ثم ينتقل سريعًا إلى سؤال أكثر حساسية: ما المنفعة التي حصلت عليها الشركة المصرية تحديدًا؟ هنا تظهر الإشكالية. فالكثير من الشركات تستطيع إثبات وجود الخدمة شكليًا، لكنها تعجز عن إثبات أثرها الفعلي. لا توجد تقارير تشغيلية، ولا مخرجات واضحة، ولا دليل على أن هذه الخدمات أضافت قيمة تختلف عما تقوم به الإدارات المحلية بالفعل.
في هذه اللحظة، يتحول موقف المأمورية من مراجعة السعر إلى التشكيك في أصل الخصم. وتبدأ إعادة التوصيف، ليس باعتبار السعر غير محايد، بل باعتبار أن الخدمة نفسها غير قابلة للخصم لانتفاء المنفعة. والنتيجة العملية ليست تعديل الهامش، بل استبعاد كامل للمصروف، بما يعيد بناء الوعاء على أساس مختلف تمامًا.
هذا السيناريو يتكرر كثيرًا في مصر لأن الشركات تميل إلى التعامل مع الخدمات داخل المجموعة باعتبارها “أمرًا طبيعيًا”، بينما يتعامل معها الفحص باعتبارها “أعلى مناطق المخاطر”.
سيناريو الموزع منخفض المخاطر
في هذا السيناريو، تُصنف الشركة المصرية باعتبارها موزعًا منخفض المخاطر داخل المجموعة. تحصل على هامش ربح محدود، بينما تذهب الأرباح الأساسية إلى الشركة الأم أو إلى كيان إقليمي. يستند ملف التسعير إلى مقارنات لموزعين منخفضي المخاطر في أسواق أخرى.
عند الفحص، لا يبدأ الاعتراض من المقارنات، بل من الواقع التشغيلي. تُسأل الشركة: من يحدد الأسعار في السوق المصري؟ من يدير العلاقات مع كبار العملاء؟ من يتحمل مخاطر الديون المتعثرة؟ من يقرر حملات التسويق والخصومات؟ من يتحمل مخاطر تقلب الطلب؟
إذا كانت الإجابات تشير إلى أن الشركة المصرية هي من يتحمل هذه العناصر، فإن وصف “منخفض المخاطر” ينهار. وهنا لا تكتفي المأمورية برفض نسبة الهامش، بل تعيد توصيف الشركة باعتبارها موزعًا كامل المخاطر. وبمجرد هذا التحول، تصبح كل المقارنات غير ذات صلة، ويُعاد احتساب الربحية على أساس مختلف كليًا، غالبًا أعلى بكثير.
هذا السيناريو يُظهر أن أخطر نقطة في التسعير ليست اختيار المنهج، بل صحة الوصف الاقتصادي الذي بُني عليه الملف.
سيناريو القروض الداخلية
في هذا السيناريو، تحصل الشركة المصرية على قرض من شركة شقيقة أو من الشركة الأم. يتم تسعير الفائدة وفق معدلات يُقال إنها محايدة، وتُخصم الفوائد من الوعاء الضريبي. الملف غالبًا يركز على مقارنة سعر الفائدة بمعدلات سوقية.
لكن الفحص المصري لا يتوقف عند هذا الحد. السؤال المحوري يصبح: هل هذا القرض حقيقي اقتصاديًا؟ هل كانت هناك حاجة فعلية للتمويل؟ هل لدى الشركة المصرية القدرة على السداد؟ وهل كان يمكنها الحصول على تمويل مماثل من طرف مستقل؟
إذا تبين أن الشركة تعاني من خسائر متراكمة، أو ضعف ملاءة، أو أن القرض لم يُستخدم في نشاط تشغيلي واضح، فإن الشك يتحول إلى قناعة بأن القرض أقرب إلى تمويل رأسمالي مقنّع أو أداة لتحويل أرباح في صورة فوائد.
في هذه الحالة، لا يُعاد تسعير الفائدة فقط، بل قد يُعاد توصيف المعاملة بالكامل، فتُستبعد الفوائد من الخصم، ويُعاد بناء الوعاء، وتُفتح مسألة رسملة القرض أو إعادة توصيفه. هذا السيناريو شائع في مصر تحديدًا بسبب اعتماد كثير من المجموعات على التمويل الداخلي بدل البنوك المحلية.
سيناريو الإتاوات والعلامات التجارية
في هذا السيناريو، تدفع الشركة المصرية إتاوة مقابل استخدام علامة تجارية أو معرفة فنية مملوكة لشركة خارج مصر. يكون العقد واضحًا، والعلامة مسجلة، وسعر الإتاوة مستندًا إلى نسب شائعة دوليًا.
لكن الفحص لا يكتفي بالملكية القانونية. يبدأ السؤال الحقيقي: من بنى العلامة في السوق المصري؟ من أنفق على التسويق؟ من تحمل مخاطر دخول السوق؟ من طوّر العلاقات مع العملاء؟
إذا كانت الإجابة الواقعية تشير إلى أن الشركة المصرية هي التي خلقت القيمة السوقية للعلامة محليًا، فإن دفع إتاوة مرتفعة يصبح موضع شك. هنا ينشأ تعارض بين الملكية القانونية والملكية الاقتصادية. وفي مصر، تميل المأموريات إلى إعطاء وزن أكبر للملكية الاقتصادية عند تقدير الوعاء.
النتيجة العملية قد تكون تخفيض الإتاوة إلى حد رمزي، أو استبعاد جزء منها، أو إعادة توصيف العلاقة باعتبارها توزيع أرباح مقنّع. وهذا من أكثر السيناريوهات حساسية وتعقيدًا في النزاع.
سيناريو التصنيع التعاقدي
في هذا السيناريو، تعمل الشركة المصرية كمصنع تعاقدي لصالح شركة أجنبية داخل المجموعة. تحصل على تكلفة التصنيع مضافًا إليها هامش ثابت، بينما تذهب الأرباح الأساسية إلى الخارج. الملف غالبًا يصنف الشركة ككيان منخفض المخاطر.
لكن الفحص يسأل: من يتحمل مخاطر الجودة؟ من يتحمل مخاطر توقف الإنتاج؟ من يتحمل مخاطر العمالة والطاقة والتشريعات المحلية؟ من يملك المعرفة الفنية الفعلية؟
إذا تبين أن الشركة المصرية تتحمل مخاطر تشغيلية جوهرية، وأنها ليست مجرد منفذ أوتوماتيكي، فإن وصفها كمصنع منخفض المخاطر يصبح غير مقبول. ويُعاد النظر في هامش الربح، وقد تُعاد هيكلة التوصيف بالكامل.
هذا السيناريو يتكرر في قطاعات صناعية عديدة داخل مصر، خاصة تلك التي تعتمد على عمالة كثيفة أو مدخلات محلية.
سيناريو البداية الخاطئة للنزاع
في كثير من الحالات، لا يكون النزاع حتميًا منذ البداية، لكنه يتدهور بسبب طريقة إدارة الأسئلة الأولى. ردود عامة، أو متأخرة، أو متناقضة، أو غير مدعومة بمستندات تشغيلية، تُفسَّر باعتبارها مؤشرات ضعف أو عدم شفافية. ومع كل رد ضعيف، يتشدد الفحص أكثر، إلى أن ينتقل الملف من مراجعة فنية إلى تقدير صارم.
السيناريوهات الناجحة على العكس تبدأ بإدارة واعية للأسئلة الأولى، وتقديم رواية متماسكة مدعومة بأدلة واقعية، تمنع انتقال الملف إلى مرحلة إعادة التوصيف.
ختاماً
السيناريوهات لا تُهزم بالأرقام بل بالهوية الاقتصادية الدرس المشترك في كل السيناريوهات المصرية الواقعية هو أن النزاع لا يُحسم بالمعادلات وحدها، بل بحسم هوية الشركة داخل المجموعة. من تفهم دورها الحقيقي، وتبني تسعيرها وتوثيقها على هذا الأساس قبل الفحص، تظل في موقع دفاعي قوي حتى عند الاختلاف. أما من تكتفي بنماذج جاهزة أو توصيفات غير متجذرة في الواقع، فستجد نفسها أمام إعادة بناء شاملة للوعاء، مهما كان ملفها أنيقًا
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com