Worldwide Locations:

القبول الإلكتروني والمادة ١٤٧ من القانون المدني

أحدثت المنصات الرقمية خلال العقد الأخير تحولًا جذريًا في طبيعة العلاقات التعاقدية، بحيث أصبح المستخدم جزءًا من منظومة تقنية تتجاوز إطار التفاعل التقليدي بين طرفين متكافئين. وفي الوقت الذي يستند فيه القانون المدني—وفق المادة ١٤٧—إلى مبدأ سلطان الإرادة القائم على إرادة واعية ومتكافئة، برزت في الواقع الرقمي ممارسات تعاقدية تُفرغ هذا المبدأ من مضمونه، وتحول القبول إلى مجرد ضغط سريع على زرّ، يُحمِّل المستخدم التزامات واسعة لا يعي محتواها ولا يستطيع التفاوض بشأنها.

هذه الدراسة تتناول الإشكالية القانونية المرتبطة بحجية الرضا في العقود الإلكترونية، وتحلل مدى انطباق نظرية العقد التقليدية على نماذج التعاقد الرقمي، مع رصد الاتجاهات التشريعية والقضائية الحديثة التي تعيد تعريف حدود الإرادة في عصر اقتصاد البيانات.

القبول الإلكتروني بين الشكلية التقنية ومتطلبات الإرادة الحقيقية

تقوم النظرية العامة للعقد على أن التعبير عن الإرادة يجب أن يكون واعيًا، حرًا، ومتعمدًا، حتى يُعتد به قانونًا. غير أن البيئة الرقمية الحديثة أدت إلى تحوّل القبول الإلكتروني إلى إجراء شكلي يتجاوز في كثير من الأحيان متطلبات الإرادة الحقيقية. فمجرد الضغط على كلمة Accept يكفي لاعتبار العقد مبرمًا ومُلزمًا، رغم أن الشروط التي يوافق عليها المستخدم غالبًا ما تكون مصاغة بلغة تقنية عسيرة الفهم، أو ممتدة إلى عشرات الصفحات التي لا يملك المستخدم وقتًا ولا قدرة على قراءتها، فضلًا عن أن بعض البنود الجوهرية تُدرج داخل روابط ثانوية أو صفحات فرعية لا يصل إليها المستخدم العادي.

في مثل هذا السياق، يصبح القبول الإلكتروني فعلًا ميكانيكيًا أكثر منه قرارًا واعيًا، إذ يقوم على استجابة لحظية لهيكل تصميمي موجَّه، لا على فهم حقيقي لطبيعة الالتزامات المترتبة عليه. فالمستخدم يجد نفسه أمام بنية تصميمية تجعل متابعة الخدمة مرتبطة حصريًا بالضغط على زر القبول، دون منح أي مساحة حقيقية للتفكير أو المراجعة أو الاختيار. وهكذا يتحول التعبير عن الإرادة إلى مجرد مظهر خارجي للقبول، بينما يظل المضمون — أي الإدراك والفهم والاختيار الحر — غائبًا أو منقوصًا.

ورغم هذا الانفصال الواضح بين الشكل والمضمون، لا يزال القانون في كثير من الأحيان يتعامل مع هذا القبول كأنه تعبير كامل وفعّال عن الإرادة. وهذا التناقض بين الواقع التقني والمعالجة القانونية التقليدية يثير إشكالًا جوهريًا حول مدى قدرة القبول الإلكتروني — بصورته الحالية — على تلبية الشروط الضرورية لوجود رضًا حقيقي، وما إذا كان بالإمكان الاستمرار في مساواة “ضغطة زر” بفهم مدرك وإرادة ناضجة تمثل الأساس الذي بُنيت عليه نظرية العقد.

عقود المنصات الرقمية كنموذج معاصر لعقود الإذعان

ترى المادة ١٤٧/١ من القانون المدني أن العقد شريعة المتعاقدين، غير أن الفقه والقضاء يقرّان بأن هذا الحكم يفترض تكافؤًا فعليًا في القوة التعاقدية. وحين ينعدم التكافؤ—كما في حالة المنصات الرقمية التي تضع شروطها منفردة—تقترب العلاقة من نموذج عقود الإذعان.

وتتجسد عناصر الإذعان الرقمي في:

  • احتكار الخدمة من جانب المنصة، بحيث لا يتمكن المستخدم من الحصول على البديل بسهولة.
  • غياب التفاوض، إذ تُعرض الشروط بصيغة “اقبل أو اخرج”.
  • اختلال ميزان القوة بما يجعل الطرف القوي قادرًا على فرض شروط مجحفة.
  • التقنية كوسيلة للهيمنة من خلال إخفاء المعلومات داخل بنية التصميم أو ما يسمى dark patterns.

هذه السمات تضع العقد الإلكتروني داخل نطاق العقود التي تخضع لرقابة القضاء حمايةً للطرف الضعيف، رغم ما تقرره المادة ١٤٧ من قوة إلزامية.

البيانات الشخصية كمحل تعاقدي جديد وأثره في فهم الرضا

لم تعد العقود الإلكترونية تدور حول مجرد استخدام خدمة، بل توسعت لتصبح مدخلًا لاستغلال البيانات الشخصية بوصفها مادة اقتصادية ذات قيمة عالية. فقبول المستخدم غالبًا ما يشمل الترخيص للمنصة بمعالجة بياناته السلوكية والمعرفية، ومشاركة هذه البيانات مع أطراف ثالثة، وبناء ملفات شخصية تُستخدم لأغراض التسويق أو التقييم الائتماني، إضافة إلى السماح باتخاذ قرارات مؤتمتة قد تمسّ سمعته أو فرص حصوله على عمل.

هذا التحول يجعل القبول الإلكتروني مؤثرًا في حقوق أساسية تتجاوز العلاقة التعاقدية التقليدية، الأمر الذي يفرض على الفقه إعادة تقييم مدى إمكانية اعتبار هذا القبول إرادة حرة.

حدود سلطان الإرادة في ضوء المادة ١٤٧

نصّت المادة ١٤٧ من القانون المدني على أن “العقد شريعة المتعاقدين”، غير أنّ هذا المبدأ لم يُترك على إطلاقه، إذ أدرك القضاء المصري — شأنه شأن القضاء المقارن — أن سلطان الإرادة لا يمكن أن يكون مطلقًا في مواجهة ممارسات تعاقدية قد تُفرغ الرضا من مضمونه. ومن ثمّ، تدخّل القضاء لوضع حدود واضحة تقي من الانحراف بهذا المبدأ، حيث يتراجع الإلزام كلما شاب الرضا عيب من عيوب الإرادة كالغلط أو التدليس أو الاستغلال، أو عندما يختل التوازن بين طرفي العقد بصورة تؤدي إلى فرض شروط مرهقة على أحدهما دون إمكانية حقيقية للمفاوضة.

كما تتقلّص قوة العقد الملزمة حين تتجاوز شروطه الحدود المألوفة أو المعتادة في مثل هذه المعاملات، سواء من حيث الغموض أو التضخم أو تضمين التزامات لا صلة لها بهدف التعاقد. وينسحب الأمر ذاته على العقود التي تُصنَّف كعقود إذعان، حيث لا تتوافر للمستهلك القدرة على مناقشة الشروط، بل يُفرض عليه نموذج موحّد لا يقبل التعديل، الأمر الذي يبرّر خضوعه لرقابة قضائية خاصة تهدف إلى حماية الطرف الضعيف ومنع الشركات من استغلال مركزها المهيمن.

وبذلك، يظهر أن المادة ١٤٧ لا تُطبّق في فراغ، بل في إطار متكامل من المبادئ والضوابط التي تجعل إرادة الأطراف محورًا حقيقيًا للعقد، لا مجرد شكل خارجي للقبول. وهذا الاتجاه يزداد أهمية في البيئة الرقمية، حيث تتضخّم الفجوة بين طرف يضع الشروط بالكامل، وطرف آخر لا يملك سوى الضغط على زر القبول.

وبتطبيق ذلك على العقود الرقمية، نجد أن غياب المفاوضة، والتعقيد المقصود، وعدم وضوح البنود، كلها عناصر قد تُضعف حجية القبول وتُخضع العقد لرقابة قضائية خاصة، مما يسمح للقاضي:

  • باستبعاد البنود التعسفية،
  • تفسير الغموض لصالح المستخدم،
  • أو اعتبار الرضا غير مكتمل إن كان معيبًا بسبب التضليل التقني.

الاتجاهات القضائية الأوروبية والأمريكية نحو “الرضا المستنير”

شهد العقد الأخير صدور أحكام قضائية محورية في أوروبا والولايات المتحدة أسست لمنظور جديد في التعاقد الرقمي، يقوم على مراجعة مفهوم الرضا الإلكتروني وتقييد حجّيته كلما افتقد الوضوح أو افتقر المستخدم إلى القدرة الحقيقية على استيعاب آثاره. وقد انتهت هذه الأحكام إلى تجاهل البنود الجوهرية التي تُخفى داخل روابط جانبية أو صفحات فرعية لا يتوقع المستخدم العادي الوصول إليها، باعتبار أن الإخفاء المتعمّد يتعارض مع متطلبات الإفصاح الواجب في العلاقات التعاقدية الحديثة.

كما تعاملت المحاكم بصرامة مع الشروط التي تُصاغ بطريقة معقدة أو مطولة بصورة غير مبررة، ورأت أن التعقيد نفسه يُعدّ عيبًا يؤثر في الرضا، لأن الإرادة لا تكون صحيحة إلا إذا بُنيت على فهم معقول لطبيعة الالتزامات. وفي السياق ذاته، بدأت بعض المحاكم تقيد إلزامية القبول الإلكتروني عندما تكون آثاره شديدة الوطأة على الحقوق الأساسية مثل الخصوصية والسمعة وفرص العمل، بحيث لا يُعتد بالقبول الشكلي إذا لم يسبقه إدراك حقيقي لعواقبه.

وتوازى ذلك مع اعتراف قضائي متزايد بخطورة اختلال موازين القوة بين المستخدم والمنصة، إذ لا يمكن افتراض الإرادة الحرة عندما يكون أحد الطرفين مهيمنًا على التصميم والمحتوى وآليات الإتاحة، بينما الطرف الآخر يواجه نموذجًا تعاقديًا ثابتًا لا مجال فيه للتفاوض. وقد شكّل هذا الاعتراف أساسًا لإعادة تقييم الالتزامات المفروضة على المستخدم، والحد من الشروط المجحفة التي تُفرض عليه تحت غطاء القبول الإلكتروني.

وتؤسس هذه الاتجاهات لمرحلة جديدة يصبح فيها الرضا الإلكتروني ملزمًا فقط إذا كان “رضا مستنيرًا” — رضا يقوم على وضوح حقيقي، وإفصاح غير منقوص، وقدرة فعلية على الفهم، لا مجرد ضغطة عابرة يُفترض فيها الإدراك الكامل دون سند واقعي.

نحو إعادة بناء نظرية الرضا الإلكتروني

في ظل هذا الواقع المتسارع، تصبح الحاجة ملحّة لإعادة صياغة الإطار القانوني الذي يحكم مفهوم الرضا في العقود الإلكترونية، بحيث ينتقل من مجرد إجراء شكلي إلى إرادة واعية تستند إلى فهم حقيقي لما يلتزم به المستخدم. ويتطلب ذلك اعتماد منهج يقوم على تعزيز الشفافية من خلال إبراز البنود الجوهرية بلغة بسيطة ومباشرة يسهل على المستخدم العادي استيعابها، إلى جانب إلزام الشركات بتقديم ملخصات قانونية مختصرة تتيح إدراك مضمون العقد دون الحاجة إلى قراءة عشرات الصفحات ذات الطابع التقني المعقد.

كما يقتضي الأمر وضع حدود للممارسات التصميمية الخادعة التي تُعرف بالـDark Patterns، والتي توجّه المستخدم نحو القبول دون إدراك، وذلك عبر اشتراط أن تكون خيارات الرفض ميسّرة وواضحة وغير مخفية. ولا يكتمل هذا الإطار إلا بضمان حق فعلي للمستخدم في استبعاد بعض البنود غير الضرورية دون أن يفقد إمكانية الحصول على الخدمة، خاصة في المنصات التي أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية ولا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.

ويُضاف إلى ذلك ضرورة إخضاع عقود المنصات الرقمية لرقابة صارمة في إطار حماية المستهلك، بما يضمن تقييم الشروط التعسفية واستبعاد ما يتعارض مع مبدأ التوازن العقدي. وتؤدي هذه الأدوات مجتمعة إلى إعادة تعريف العلاقة التعاقدية في البيئة الرقمية، دون المساس بالمبدأ العام الوارد في المادة ١٤٧، بل من خلال استكماله بآليات واقعية تضمن أن يكون الرضا الإلكتروني رضًا حقيقيًا لا صوريًا، وتعيد إلى المستخدم جزءًا من السلطة التي فقدها في عالم تحكمه المنصات العملاقة.

خاتمة

تكشف البيئة الرقمية عن مفارقة قانونية واضحة: في الوقت الذي يتعامل فيه القانون مع القبول الإلكتروني كإرادة كاملة، يتعامل الواقع مع هذا القبول كإجراء شكلي يُفرض على المستخدم دون أي تفاوض. وبينما تظل المادة ١٤٧ أساسًا للنظرية التعاقدية، فإن تطبيقها على العقود الرقمية يحتاج إلى قراءة جديدة تأخذ في الاعتبار اختلال القوة، وتعقيد الشروط، وطبيعة البيانات كمحل اقتصادي للعقد.

مع اتساع دور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يتجه العالم نحو مرحلة يُعاد فيها تشكيل مفهوم الرضا على نحو يجعل الموافقة الإلكترونية فعلًا قانونيًا يتطلب حماية وضمانات تكافئ أثره العميق على الحقوق والحريات.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Maher Milad Iskander - Managing Partner
door