مبدأ المصلحة العامة وقانون مكافحة الإغراق في مصر
في عالم يتسارع فيه الإغراق التجاري وتتسع فيه الهوة بين حماية الصناعة والمصلحة العامة، لم تعد سياسات الدفاع التجاري مجرد إجراءات إدارية، بل باتت قرارات تمس الحياة اليومية للمستهلك، ومسار الإنتاج الوطني، واستقرار السوق ككل. ومن بين هذه السياسات، تبرز رسوم مكافحة الإغراق كواحدة من أكثر الأدوات حساسية، نظرًا لما تُحدثه من تأثير مباشر على حركة الأسعار، وسلاسل الإنتاج، ومناخ الاستثمار.
ورغم أن هذه الرسوم تهدف مبدئيًا إلى إعادة التوازن لصالح الصناعة المحلية المتضررة، فإن افتقادها لتحليل المصلحة العامة قد يُحوّلها إلى سلاح اقتصادي مرتد. هذه الورقة تسلط الضوء على أهمية مبدأ “المصلحة العامة” كعنصر حاسم في تصميم السياسات التجارية، مستندة إلى تجارب دولية ناضجة، ووقائع محلية كشفت عن ثغرات في التطبيق.
عندما تتحول الحماية إلى عبء اقتصادي
مفهوم “المصلحة العامة” في السياسات التجارية لا يعني التضحية بالصناعة المحلية، بل يُقصد به تقييم الأثر الأشمل لأي تدخل حكومي، على المستهلكين، والقطاعات المتداخلة، والتوظيف، والأسعار. ففرض رسم حماية على سلعة معينة يجب أن يُنظر إليه كقرار اقتصادي يمس عشرات – بل مئات – من المتغيرات، وليس فقط ردًا على شكوى صناعية.
يعتمد هذا المفهوم على قاعدة “المنفعة الصافية”، التي تسأل ببساطة: هل سينتج عن الإجراء نفع أكبر من الضرر؟ وإذا كان الضرر يتجاوز المكاسب، فلماذا نتخذه؟ من هنا تأتي الحاجة إلى تقرير مستقل يقيس هذا الأثر في كل مرة يُطرح فيها إجراء حمائي.
الاتحاد الأوروبي: كيف يُصاغ القرار التجاري بحسّ جماعي؟
الاتحاد الأوروبي يُعد النموذج الأوضح في إدماج المصلحة العامة في مكافحة الإغراق. فقد نصّت المادة ٢١ من لائحة مكافحة الإغراق الأوروبية على إلزام المفوضية بإجراء تقييم دقيق لأثر أي رسم مقترح على الاقتصاد والمستهلكين.
فعلى سبيل المثال، في قضية واردات الفولاذ المطلي من الصين، والتي عُولجت عبر اللائحة التنفيذية ٢٠١٩/٦٨٧، لم تكتف المفوضية الأوروبية بإثبات الإغراق، بل أرفقت تحقيقها بتقرير منفصل عن تأثير القرار على قطاعات أخرى مثل صناعة السيارات والأجهزة المنزلية. رغم ثبوت وجود الإغراق، لم يكن القرار بالموافقة عليه تلقائيًا، بل جاء بعد تحليل دقيق للتوازن الكلي، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى فرض الرسوم مع ضبطها لتفادي الإضرار بسلاسل الإنتاج.
أثر الرسوم الوقائية على الألومنيوم في مصر
في أبريل ٢٠٢١، فرضت وزارة التجارة والصناعة المصرية رسومًا وقائية نهائية على واردات منتجات الألومنيوم، تشمل القوالب، السلندرات، والأسلاك، لمدة ثلاث سنوات، تبدأ بنسبة ١٦.٥٪ من قيمة السلعة CIF بحد أدنى ٣٣٣ دولارًا للطن. القرار استند إلى شكوى قدمتها شركة مصر للألومنيوم، مدعومة بتقارير عن ضرر جسيم ناجم عن المنافسة الأجنبية الرخيصة.
لكن بعد القرار، ظهرت مؤشرات مقلقة. ارتفعت أسعار الألومنيوم في السوق المحلي بنسبة تجاوزت ١٨%، وفقًا لتصريحات رسمية من غرفة الصناعات الهندسية، وتأثرت صناعات تعتمد على الألومنيوم كمكوّن إنتاجي، مثل الأجهزة الكهربائية وصناعة الهياكل المعدنية. لم يُسجّل توسع حقيقي في الطاقة الإنتاجية للشركة المشتكية، ولم يتحقق تحسّن في التوظيف، بينما تحمّل الاقتصاد كلفة مضاعفة دون تعويض كافٍ.
هذه الواقعة تكشف إغفالًا واضحًا لتحليل المصلحة العامة قبل اتخاذ القرار، إذ غابت أي محاولة لقياس الضرر الكلي، أو مقارنة الأثر على القطاعات الأخرى، أو تقييم تداعيات القرار على المستهلك النهائي.
جنوب أفريقيا وكندا: تشريعات تراعي الصورة الكاملة
جنوب أفريقيا تنص صراحة في قانونها على ضرورة تحليل التأثير الكلي للرسوم، وتمنح الجهة الإدارية الحق في الامتناع عن فرض الرسوم إن كان أثرها سلبيًا على الاقتصاد العام أو على فئات استهلاكية أساسية.
أما كندا، فتُجري هيئة التحقيقات التجارية استشارات عامة واسعة تشمل الصناعات المشتكية والمستهلكة، وتُصدر تقارير تحليلية قبل اعتماد أي قرار حمائي، مما يُكسب القرار بعدًا تشاركيًا يُقلل من مخاطره.
خاتمة: قانون قديم لواقع جديد
ما تكشفه هذه الورقة بوضوح هو أن مصر، رغم امتلاكها قانونًا منذ عام 1998 لمكافحة الممارسات الضارة في التجارة الدولية، لم تُحدّث أدواتها بما يتناسب مع تعقيدات السوق الحديثة. القرار الاقتصادي لم يعد يحتمل النظرة الأحادية، ولا يمكن أن يستمر في الاعتماد فقط على شكاوى الصناعات المنتجة دون سماع صوت المستهلك، أو تقييم الأثر الكلي.
إن إدراج شرط المصلحة العامة، كتقييم اقتصادي شامل، يجب أن يكون بندًا إلزاميًا في القانون رقم ١٦١ لسنة ١٩٩٨. وليس المقصود بذلك التعطيل أو التردد، بل التوازن. فالدولة لا تحمي المصانع فقط، بل تحمي السوق كله.
وعليه، فإننا نوصي بتعديل تشريعي واضح، ينص صراحة على إلزام جهاز مكافحة الدعم والإغراق بإجراء تقييم مستقل للمصلحة العامة، قبل فرض أي رسوم نهائية. ويُفضل أن يُنشأ مجلس استشاري دائم يُشارك فيه ممثلو القطاعات المتأثرة، وغرف التجارة والصناعة، والجهات الإحصائية، ليكون القرار التجاري أكثر وعيًا، وعدالة، وفاعلية.
لأن الحماية العادلة لا تخلق الخلل، بل تصنع التوازن.
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com