الإغراق العكسي والتحدي الصناعي في مصر
لم يعد الإغراق التجاري في عصر العولمة ظاهرة أحادية الاتجاه، تأتي من الخارج نحو الأسواق الوطنية، بل ظهر شكل أكثر تعقيدًا يُعرف بـ الإغراق العكسي (Reverse Dumping)، حيث تتحول الدولة المضيفة للاستثمار الأجنبي إلى مصدر لصادرات تُتَّهم بأنها تُباع في الخارج بأسعار غير عادلة. في هذا النموذج، لا تكون الدولة هي من دعمت أو وجّهت التسعير، بل المستثمر الأجنبي الذي يستغل الأراضي الوطنية كقاعدة تصنيع منخفضة التكلفة، بينما يحدد السعر والربح من مقره الرئيسي في الخارج.
تحدث هذه الظاهرة غالبًا في القطاعات كثيفة العمالة مثل المنسوجات والملابس الجاهزة، حيث تستفيد الشركات الأجنبية من العمالة الرخيصة، والطاقة المدعومة، والإعفاءات الضريبية، واتفاقيات التجارة الحرة، ثم تُصدّر منتجاتها إلى الأسواق العالمية بأسعار تقل عن قيمتها الفعلية أو عن السعر العالمي. وعندما تُفتح تحقيقات مكافحة الإغراق في الخارج، تُدرج الدولة المضيفة — مثل مصر — في قوائم الدول المتهمة بالإغراق، فتُفرض رسوم على جميع صادراتها دون تفرقة بين المنتج الوطني والمستثمر الأجنبي.
وبذلك، يدفع المصنع المصري ثمن التسعير الذي لم يضعه، وتتحمل الدولة تبعات قرار لم تتخذه. فالإغراق العكسي ليس مجرد خلل سعري، بل تحدٍّ لسيادة الدولة الإنتاجية في عالم أصبحت فيه القرارات التجارية تُتخذ خارج حدودها، بينما تُنفَّذ داخل اقتصادها الوطني.
لماذا يحدث الإغراق العكسي؟
تحدث ظاهرة الإغراق العكسي نتيجة فجوة تنظيمية وتشريعية في العلاقة بين الدولة والمستثمر الأجنبي، لا تتعلق بغياب القوانين تمامًا، بل بغياب التكامل بين القوانين الضريبية والتجارية والاستثمارية. فمعظم تشريعات الاستثمار في الدول النامية – ومنها مصر – تركز على تقديم المعاملة الوطنية المتكافئة للمستثمر الأجنبي، فتمنحه ذات الامتيازات والحوافز الممنوحة للمستثمر المحلي، لكنها لا تفرض عليه بالقدر نفسه التزامات شفافة تتعلق بالتسعير التصديري أو آليات اتخاذ القرار السعري داخل السوق المحلي.
صحيح أن مصر تمتلك بالفعل نظامًا متقدمًا لتسعير التحويل (Transfer Pricing) تنظمه قرارات مصلحة الضرائب (وخاصة القرار رقم ٥٤٧ لسنة ٢٠١٨)، ويُلزم الشركات متعددة الجنسيات بتقديم الملفات المحلية والرئيسية وتقارير الدولة بالدولة (CbCR)، وفقًا لمبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). غير أن هذا النظام يهدف أساسًا إلى حماية الوعاء الضريبي ومنع نقل الأرباح للخارج، وليس إلى ضبط الأسعار التصديرية وتأثيرها التجاري على الأسواق الدولية.
وهنا تنشأ الثغرة: فالشركة الأم في الخارج تظل قادرة على توجيه فرعها في مصر لتصدير منتجاته بأسعار تقل عن القيمة العادلة، لا بقصد التهرب الضريبي، بل لتحقيق أهداف استراتيجية – كغزو أسواق جديدة، أو تصريف فوائض إنتاج، أو موازنة خسائر في بلد آخر. وبما أن التسعير التحويلي في مصر يُراجع من زاوية ضريبية داخلية فقط، لا توجد آلية رقابية تجارية أو سيادية تمنع هذه الممارسات أو تربطها بأثرها على سمعة الصادرات المصرية.
النتيجة أن المنتج يُوسَم بأنه “صُنع في مصر”، بينما سُعّر في الخارج، وتتحمل مصر تبعات القرار الذي لم تصدره. وعندما تصل تلك السلع إلى أسواق الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو آسيا بأسعار منخفضة مصطنعة، تُفتح تحقيقات مكافحة إغراق ضد مصر كبلد منشأ، وليس ضد الشركة الأم التي اتخذت القرار.
وهكذا، يتحول فرع الشركة الأجنبية في مصر من فاعل إنتاجي داخل الاقتصاد الوطني إلى أداة في استراتيجية تسعيرية عالمية لا تعبّر عن مصالح السوق المحلي، ويصبح الإغراق العكسي نتيجة مباشرة لفقدان الدولة السيطرة على آليات التسعير الموجهة من الخارج، رغم أن الإنتاج يتم داخل حدودها وتحت مظلة قوانينها.
التجارب الدولية في مواجهة الإغراق العكسي
تُظهر تجارب عدد من الدول الناشئة والكبرى أن مواجهة ظاهرة الإغراق الصناعي أو العكسي لا تتحقق فقط من خلال قوانين مكافحة الإغراق التقليدية، بل عبر أنظمة دقيقة للرقابة على التسعير والتحويل المالي بين الشركات متعددة الجنسيات وفروعها المحلية، بما يضمن عدالة المنافسة داخل السوق الوطني ويمنع استغلال الاستثمار كغطاء لهيمنة خارجية.
:الهند
منذ عام ٢٠٠١، اعتمدت الهند نظامًا متكاملًا لمراقبة تسعير التحويل (Transfer Pricing) عبر قانون ضريبة الدخل (المواد ٩٢ إلى ٩٢F)، الذي يُلزم الشركات متعددة الجنسيات بأن تكون تعاملاتها مع فروعها في الهند وفق مبدأ السعر المحايد (Arm’s Length Principle)، أي بالسعر الذي يسري بين أطراف مستقلة غير مرتبطة.
ولضمان التطبيق الفعلي، أنشأت وزارة المالية وحدة متخصصة داخل الإدارة المركزية للضرائب المباشرة (CBDT) تتولى مراجعة أسعار التحويل للصادرات والخدمات بين الفروع الهندية والشركات الأم.
وتركّزت الرقابة بشكل خاص على الشركات العاملة داخل المناطق الاقتصادية الخاصة (SEZs)، حيث تكون الامتيازات الضريبية محفزة على خفض الأسعار المصطنع.
وفي حال ثبت أن الأسعار المعلنة أقل من القيمة السوقية العادلة أو غير مبررة اقتصاديًا، تتدخل السلطات الضريبية لفرض تسوية تعويضية تُضاف إلى الدخل الخاضع للضريبة، أو تقوم بتعديل الأسعار المرجعية الرسمية للصادرات الهندية في تعاملاتها الدولية.
وبذلك، نجحت الهند في بناء آلية مزدوجة تحمي المالية العامة من فقدان الإيرادات الضريبية، وتحافظ في الوقت ذاته على سمعتها التجارية الدولية من اتهامات الإغراق
البرازيل:
واجهت البرازيل منذ تسعينيات القرن الماضي انتقادات متكررة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بسبب تسعير منخفض لصادراتها من قبل الشركات متعددة الجنسيات العاملة داخل أراضيها، وهو ما عرّضها مرارًا لتحقيقات في قضايا إغراق.
وردًا على ذلك، أقرت الحكومة البرازيلية القانون رقم ٩٤٣٠ لسنة ١٩٩٦، الذي وضع أسسًا لتنظيم أسعار التحويل في المعاملات بين الشركات المرتبطة، ثم استُكمل لاحقًا بـ اللائحة التنفيذية رقم IN ١٣١٢ لسنة ٢٠١٢ الصادرة عن مصلحة الضرائب الفيدرالية (RFB).
ونصت اللائحة صراحة على أن سعر الصادرات من داخل البرازيل لا يجوز أن يقل عن 90٪ من السعر المرجعي الدولي، سواء في حالة بيع المواد الخام أو المنتجات الصناعية أو شبه المصنعة.
وبموجب هذا النظام، أصبحت الشركات الأجنبية العاملة في البرازيل ملزمة ببيع منتجاتها إلى الخارج بأسعار عادلة واقعية، بما يمنع استخدام السوق البرازيلية كمنصة لتصريف السلع الرخيصة أو لتخفيض الأسعار بغرض التهرب من القيود التجارية الدولية.
هذا الإطار التشريعي جعل البرازيل نموذجًا في تحمل المسؤولية المشتركة بين الدولة والمستثمرين، لحماية سمعة الصادرات البرازيلية وضمان أن لا تتحول البلاد إلى مصدر لإغراق خارجي أو داخلي.
كوريا الجنوبية:
تبنت كوريا الجنوبية سياسة استباقية قائمة على الشفافية التعاقدية، من خلال تطبيق نظام الاتفاق المسبق على التسعير (Advance Pricing Arrangement – APA).
يتيح هذا النظام للشركات الأجنبية العاملة في كوريا تقديم طلب مسبق إلى مصلحة الضرائب الوطنية (NTS) لتحديد منهجية التسعير التي ستُستخدم في التعاملات المستقبلية مع الشركة الأم أو الأطراف المرتبطة.
وبمجرد الموافقة على الطلب، يصبح السعر المعتمد ملزمًا للطرفين ولا يجوز تعديله لاحقًا، مما يقلل من احتمالات النزاع أو الاتهامات بالإغراق أو التهرب الضريبي.
وقد مكّن هذا النظام كوريا من تجنب عشرات القضايا التجارية الدولية، وساعد على استقرار بيئة الاستثمار، حيث يشعر المستثمرون بالأمان القانوني، وتضمن الدولة في المقابل عدالة التسعير وحماية السوق المحلي.
ونظرًا لنجاح التجربة، أصبحت كوريا الجنوبية مرجعًا عالميًا في تطبيق آليات التسعير التوافقي، واقتدت بها دول آسيوية وأوروبية عدة في السنوات اللاحقة.
الصين:
على الرغم من أن الصين تُتَّهَم كثيرًا بممارسات الإغراق في الأسواق العالمية، فإنها في المقابل وضعت قواعد صارمة لتنظيم الاستثمار الأجنبي داخلها لحماية سوقها المحلي من الإغراق العكسي.
ألزمت الحكومة الصينية جميع الشركات الأجنبية العاملة في أراضيها بتقديم إفصاح سنوي شامل عن جميع التعاملات المالية والتجارية مع الشركة الأم أو الأطراف المرتبطة، بما في ذلك أسعار التحويل، ونسب التمويل، وطرق تقييم الأصول.
وتتولى الإدارة العامة للضرائب الحكومية (State Administration of Taxation – SAT) مراجعة هذه البيانات بدقة ضمن خطة وطنية تُعرف باسم “خطة مكافحة نقل الأرباح إلى الخارج (BEPS Program)”.
وفي حال ثبوت أي تسعير موجه خارجيًا أو غير عادل، تفرض السلطات تسويات ضريبية وتصحيحية أو تُلغي الإعفاءات الممنوحة للمستثمر المخالف.
بهذه السياسة، نجحت الصين في منع استخدام أراضيها كمنصة إنتاجية لتوجيه السلع منخفضة السعر إلى الأسواق العالمية، وفي الوقت نفسه عززت انضباط السوق الداخلي، بحيث يكون الاستثمار الأجنبي أداة لدعم الاقتصاد الوطني لا وسيلة للهيمنة عليه.
وتوضح هذه التجارب أن التصدي للإغراق العكسي لا يقتصر على فرض الرسوم الجمركية، بل يتطلب بناء منظومة قانونية ومؤسسية متكاملة تراقب حركة التسعير والتمويل داخل الشركات الأجنبية، وتربط بين السياسة الضريبية والتجارية لضمان حماية الصناعة الوطنية دون المساس بجاذبية الاستثمار.
الدروس المستفادة لمصر
تواجه مصر اليوم تحديًا متناميًا يشبه ما مرت به دول كالهند والبرازيل وكوريا، خاصة في قطاع المنسوجات الذي يُعد من أكثر القطاعات تعرضًا للتحقيقات الدولية بدعوى البيع بأسعار منخفضة أو غير عادلة في بعض الأسواق الخارجية.
تأتي هذه التحقيقات – سواء من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة – دون تمييز واضح بين المصانع الوطنية المملوكة لمصريين بالكامل وتلك التابعة لمستثمرين أجانب تعمل من داخل مصر، الأمر الذي قد يُلحق ضررًا مباشرًا بسمعة الصادرات المصرية ككل، ويُضعف موقفها التفاوضي في أي نزاعات تجارية دولية.
هذا الوضع يُظهر أن المشكلة لا تتعلق فقط بالأسعار التصديرية، بل بجوهر العلاقة بين الدولة والمستثمر الأجنبي، وبغياب آليات مؤسسية تضمن الشفافية في التسعير والتمويل ونسب المكونات المحلية.
فحين تبيع بعض الشركات الأجنبية العاملة في مصر منتجاتها للخارج بأسعار مدعومة من الشركة الأم أو منخفضة عن التكلفة العادلة، فإن ذلك يُعد إغراقًا عكسيًا صادرًا من داخل السوق المصري نفسه، ما يجعل مصر عرضة للإجراءات الحمائية من شركائها التجاريين ويُهدد تنافسية منتجاتها الوطنية.
من هنا، لا ينبغي أن يكون الحل في تقييد الاستثمار الأجنبي أو فرض قيود تعسفية عليه، بل في إعادة صياغة بيئة الأعمال على نحو يدمج الشفافية والمسؤولية المشتركة كجزء أساسي من النظام الاستثماري.
وهذا يتطلب حزمة إصلاحات واقعية ومؤسسية تشمل:
- تعديل قانون الاستثمار رقم ٧٢ لسنة ٢٠١٧ لإضافة مادة تُلزم الشركات ذات التمويل الأجنبي بتقديم تقارير دورية مفصّلة عن سياسات التسعير التصديري، والعلاقات التجارية مع الشركة الأم أو الأطراف المرتبطة، مع تحديد معايير لمبدأ Arm’s Length لضمان عدالة التسعير.
- تفعيل قانون مكافحة الإغراق رقم ١٦١ لسنة ١٩٩٨ من خلال توسيع نطاق تطبيقه ليشمل الحالات التي تُلحق ضررًا بسمعة المنتجات المصرية في الخارج نتيجة ممارسات تسعيرية ناتجة من داخل البلاد، وليس فقط من الواردات الأجنبية.
- تأسيس وحدة وطنية مشتركة بين وزارة التجارة والصناعة، مصلحة الضرائب، والهيئة العامة للاستثمار، تتولى مراقبة الأسعار التحويلية بين الشركات الأجنبية وفروعها المحلية، وتحليل فروق التسعير في القطاعات الحيوية.
- إنشاء قاعدة بيانات وطنية للأسعار التصديرية في القطاعات الحساسة مثل المنسوجات، الكيماويات، الصلب، والأجهزة المنزلية، بحيث تُستخدم كمرجع رسمي في المفاوضات التجارية والتحقيقات الدولية.
- ربط الحوافز الصناعية والاستثمارية بنسبة القيمة المضافة المحلية، بحيث لا تُمنح الإعفاءات الجمركية أو الضريبية إلا إذا تجاوزت نسبة التصنيع المحلي 40٪ من التكلفة الكلية للمنتج، بما يشجع على الإنتاج الحقيقي لا التجميع الشكلي.
إن تطبيق هذه الإصلاحات سيمنح مصر نظامًا رقابيًا استباقيًا يمنع التلاعب في الأسعار التصديرية من داخل أراضيها، ويُعيد صياغة مفهوم الاستثمار الأجنبي ليكون شريكًا في التنمية لا مصدرًا للتشوهات التجارية.
وبذلك، يمكن لمصر أن تحقق معادلة دقيقة بين جذب رؤوس الأموال وصون سمعة صادراتها وصناعتها الوطنية ضمن منظومة استثمارية عادلة ومستدامة.
البعد السيادي والاقتصادي
لا يُعدّ الإغراق العكسي مجرد خطرٍ تجاريٍ عابر، بل هو في جوهره تهديد مباشر للسيادة الاقتصادية للدولة. فحين تتحول الأراضي الوطنية إلى منصة إنتاجية لصالح قوى خارجية تُوجّه سياسات التسعير وتتحكم في تدفقات السلع، تصبح الصناعة المحلية أداة في يد مصالح أجنبية، لا تُعبّر عن أولويات الاقتصاد الوطني ولا تخدم أهداف التنمية المستقلة.
إن خطورة هذا الوضع تكمن في أنه ينقل مركز القرار الاقتصادي من الداخل إلى الخارج، بحيث تُحدَّد الأسعار والتكاليف وهوامش الربح – بل وحتى وجهات التصدير – وفق اعتبارات تتعلق بالشركات الأم أو الحكومات الداعمة لها، وليس بناءً على مصلحة السوق المصري أو استراتيجياته الصناعية. وهكذا، يُصبح ما يُنتَج داخل مصر نتاجًا لرؤية أجنبية، يُستخدم لتحقيق مكاسب في ميزان مدفوعات دول أخرى أو لموازنة سياساتها التجارية، بينما تتحمل مصر وحدها تبعات تلك الممارسات في صورة تحقيقات دولية، أو عقوبات جمركية، أو تراجع تنافسية صادراتها.
وتتجلى هنا المعادلة المعقدة بين الضرائب، والاستثمار، والتجارة الخارجية، والمنافسة، فكلها تتقاطع في سؤالٍ سياديٍ واحد: من يتحكم فعليًا في التسعير؟
إن فقدان الدولة السيطرة على آليات التسعير داخل حدودها يعني فقدانها السيطرة على سلاسل القيمة والإنتاج، وهو أخطر من فقدان الموارد الطبيعية أو الطاقة، لأنه يمس جوهر القرار الاقتصادي ذاته.
فالسيادة الإنتاجية لا تتحقق بمجرد امتلاك المصانع أو استقطاب رؤوس الأموال، بل تتحقق حين تملك الدولة قرار التسعير، وتُشرف على منظومة القيمة المضافة من المنبع إلى التصدير. من دون ذلك، تصبح المصانع التي تعمل داخل البلاد – حتى وإن كانت قانونيًا “مصرية” – جزءًا من منظومة إنتاج عالمية لا تعبّر عن المصلحة الوطنية، بل تُسهم في تقويضها.
إن مصر، وهي تخطو بثبات نحو إعادة بناء قاعدتها الصناعية، مطالَبة اليوم بأن تُدرج مفهوم السيادة الاقتصادية ضمن تشريعاتها الاستثمارية والتجارية. وهذا يعني أن الحماية لا تُقاس فقط بالرسوم أو القيود الجمركية، بل بقدرة الدولة على ضبط حركة رأس المال، ورقابة التسعير، وتوجيه الإنتاج بما يخدم أولوياتها.
ولذلك، فإن تحديث القوانين المرتبطة بالإغراق، وتوسيع صلاحيات أجهزة المنافسة والضرائب، وإنشاء آليات وطنية للرصد والتسعير، ليست مجرد إجراءات فنية، بل قرارات سيادية تضمن أن تبقى مصر منتِجًا فاعلًا ومستقلًا في الاقتصاد العالمي، لا مجرد محطة إنتاج عابرة تُستخدم لأغراض لا تخدمها.
خاتمة
يُمثّل الإغراق العكسي أحد أخطر مظاهر العولمة الاقتصادية في صورتها غير المتوازنة، فهو الوجه الخفي الذي يجعل الدولة تنتقل من موقع المتضرر إلى موقع المتهم في الأسواق الدولية، دون أن يتغير جوهر الخسارة: انكماش القاعدة الصناعية، وتآكل القيمة المضافة الوطنية، وتراجع الثقة في الصادرات. فحين تُستخدم الأراضي الوطنية لإعادة تصدير منتجات موجَّهة خارجيًا بأسعار مصطنعة، تتحول مكاسب الاستثمار إلى عبء، ويُستبدل الازدهار الصناعي بـ تبعية إنتاجية تقوّض استقلال القرار الاقتصادي.
إن مواجهة هذه الظاهرة لا تتحقق عبر سياسات حمائية تقليدية أو فرض قيود على الاستيراد فحسب، بل عبر حوكمة استراتيجية دقيقة للاستثمار الأجنبي والتصدير. فالدولة التي تراقب تدفقات رأس المال، وتتابع سياسات التسعير التصديري، وتفرض معايير شفافية صارمة على المستثمرين الأجانب، وتربط الحوافز الحكومية بمستوى القيمة المضافة الحقيقية داخل الاقتصاد المحلي — هي الدولة التي تملك زمام سيادتها الاقتصادية في عصر العولمة المفتوحة.
فاليوم، لم يعد الإغراق يأتي من الخارج فقط؛ بل قد يبدأ من الداخل، حين يغيب الضبط المؤسسي، أو تُترك آليات التسعير والتصنيع دون رقابة، أو تتحول بعض الاستثمارات إلى جزر اقتصادية مغلقة تعمل وفق أجندة خارجية لا علاقة لها بالتنمية الوطنية. وهنا تتجاوز القضية حدود التجارة إلى جوهر السيادة الإنتاجية، أي قدرة الدولة على أن تكون صاحبة القرار في ما يُنتَج، وكيف يُنتَج، ولمن يُنتَج.
إن معركة مصر المقبلة ليست ضد المستوردين أو المنافسين الخارجيين فحسب، بل ضد الفجوة بين الإنتاج المحلي والقرار الخارجي، وضد اختلال منظومة القيمة الوطنية في ظل اقتصاد عالمي سريع التغير. فالحفاظ على السيادة الإنتاجية ليس ترفًا سياسيًا أو شعارًا نظريًا، بل ضرورة وجودية لحماية مستقبل الصناعة المصرية، وصون الاستقلال الاقتصادي للدولة، وترسيخ مكانتها كقوة إنتاجية قادرة على التفاعل مع العالم دون أن تذوب في تياره.
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com