Worldwide Locations:

قيود على تقديم الطعون بالنقض في مصر

يُعدّ الطعن بالنقض أرفع درجات التقاضي في النظام القضائي المصري، وهو الضمانة العليا لتحقيق العدالة القانونية وتصحيح ما قد يشوب الأحكام من أخطاء في تطبيق القانون أو تفسيره.

ومع ذلك، فإن المشرّع المصري لم يجعل هذا الطريق مفتوحًا بغير قيد، بل حدده بضوابط دقيقة لضمان عدم إساءة استعماله ولتحقيق مبدأ استقرار الأحكام القضائية.

فمحكمة النقض ليست محكمة وقائع، ولا تعيد بحث الأدلة أو تقدير الوقائع، وإنما هي محكمة قانون تراقب مدى صحة تطبيق النصوص القانونية على الوقائع الثابتة في الحكم المطعون فيه.

ومن ثمّ، فإن الطعن أمامها لا يكون حقًا مطلقًا، بل يخضع لشروط صارمة ولقيود محددة، أبرزها الحالات التي لا يجوز فيها الطعن بالنقض والتي نعرضها فيما يلي تفصيلًا وتحليلًا.

الأحكام الغيابية الصادرة من محكمة الجنايات

الحكم الغيابي الصادر من محكمة الجنايات لا يجوز الطعن عليه بالنقض.

والأساس في ذلك أن هذا الحكم لا يُعدّ حكمًا نهائيًا، لأن القانون قد رسم طريقًا خاصًا للطعن عليه هو المعارضة.

فما دام باب المعارضة مفتوحًا، فإن الحكم الغيابي لا يحوز قوة الأمر المقضي، ومن ثمّ لا يُقبل الطعن عليه أمام محكمة النقض.

ويستند هذا المبدأ إلى قاعدة راسخة مؤداها أن محكمة النقض لا تنظر إلا في الأحكام النهائية الصادرة عن محاكم الجنايات أو الاستئناف بعد استنفاد طرق الطعن العادية.

فإذا عارض المحكوم عليه في الحكم الغيابي، ثم صدر حكم حضوري ورفضت المعارضة، أصبح الحكم نهائيًا، ويجوز حينئذٍ الطعن فيه بالنقض خلال الميعاد المقرر قانونًا.

أحكام الجنح التي لا تتجاوز الغرامة فيها النصاب القانوني

نص المشرّع على أن بعض الأحكام لا يجوز الطعن فيها بالنقض إذا كانت العقوبة المقضي بها لا تتجاوز نصابًا ماليًا معينًا.

وهذا الحكم ينطبق على الجنح البسيطة التي تقتصر عقوبتها على غرامة ضمن الحدّ الأدنى المحدد قانونًا.

والفلسفة التشريعية من هذا القيد واضحة:

محكمة النقض تُعنى بتصحيح الأخطاء القانونية الجسيمة التي تمسّ المبادئ العامة للعدالة، وليس من المنطقي أن تُثقل بآلاف الطعون الصغيرة التي لا تتجاوز قيمتها بضع مئات من الجنيهات.

ومن ثمّ، فقد حصر المشرّع نطاق الطعن أمام النقض في الأحكام التي تنطوي على مسائل قانونية جوهرية أو مالية معتبرة.

الطعن في الدعوى المدنية التابعة إذا كانت قيمة التعويض دون نصاب النقض

إذا كانت الدعوى المدنية مقامة تبعًا للدعوى الجنائية، فلا يجوز الطعن بالنقض في الشق المدني وحده إذا كانت قيمة التعويض المطلوب أو المقضي به أقل من النصاب المحدد قانونًا للطعن أمام محكمة النقض.

ويستند ذلك إلى أن وظيفة محكمة النقض ليست إعادة تقدير التعويض أو مناقشة عناصره المادية، بل هي تنظر فقط فيما إذا كان الحكم قد طبّق القانون تطبيقًا صحيحًا على الوقائع.

لذلك، فإن الطعن بالنقض في الشق المدني لا يُقبل إلا إذا انطوى الحكم على خطأ قانوني في تحديد الأساس القانوني للمسؤولية أو في تطبيق النصوص المنظمة لها.

الطعن من غير ذي مصلحة أو خارج نطاق الحقوق المخوّلة للطاعن

شرط المصلحة من النظام العام في جميع طرق الطعن.

فلا يُقبل الطعن ممن لم يتضرر من الحكم المطعون فيه، أو إذا لم يكن له مصلحة شخصية ومباشرة في نقضه.

فمثلًا، لا يجوز للمدعي بالحقوق المدنية أن يطعن على الحكم فيما يخصّ العقوبة، لأنها لا تمسّ حقه المدني في التعويض.

كما لا يجوز للمسؤول المدني أن يطعن في الحكم إلا في حدود ما يتعلّق بمسؤوليته المدنية وحدها، دون التطرق إلى ما يخصّ الإدانة الجنائية للمتهم.

وتؤكد محكمة النقض في العديد من أحكامها أن المصلحة يجب أن تكون قائمة وحالية ومباشرة، وأن تُفضي – في حال قبول الطعن – إلى تعديل مركز قانوني للطاعن.

الطعن على الأحكام التمهيدية أو الوقتية قبل الفصل في الموضوع

تنص المادة ٣٠من قانون ٥٧ لسنة ١٩٥٩ على أنه:


“لا يجوز الطعن بطريق النقض في الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع إلا إذا انبنى عليها منع السير في الدعوى.”


ويُفهم من هذا النص أن الأحكام التي تصدر أثناء سير الدعوى – مثل الأحكام بندب خبير أو تأجيل القضية أو رفض طلب فرعي – لا يجوز الطعن فيها بالنقض لأنها ليست فاصلة في الموضوع.

غير أن الاستثناء يقع عندما يكون الحكم قد منع السير في الدعوى، مثل الحكم بعدم الاختصاص أو انقضاء الدعوى أو بطلان الإجراءات الجوهرية.

ويُراد بهذا القيد منع تعطيل سير العدالة وتكدس محكمة النقض بطعون وقتية لا تتصل بجوهر النزاع.

الطعن بالنقض غير جائز ما دام باب المعارضة مفتوحًا

من القواعد المستقرة أن الطعن بالنقض لا يُقبل على حكم لا يزال قابلاً للمعارضة.

فالمعارضة تُعدّ طريقًا أصليًا للطعن يسبق النقض، ولا يجوز الجمع بينهما.

فإذا قدم المحكوم عليه طعنًا بالنقض قبل أن يفصل في معارضته، كان طعنه سابقًا لأوانه وغير مقبول شكلًا.

والعلة في ذلك أن الحكم المطعون فيه لم يكتسب بعد صفة النهائية التي تُجيز عرضه على محكمة النقض.

أحكام المخالفات وما ارتبط بها ارتباطًا لا يقبل التجزئة

الأحكام الصادرة في المخالفات البسيطة لا يجوز الطعن فيها بالنقض، لأن المشرّع قد رأى أنها لا تستحق عرضها على المحكمة العليا.

ويمتد هذا المنع إلى الأحكام المرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا لا يقبل الفصل، كأن تكون المخالفة متصلة بجنحة بسيطة تشكل معها وحدة لا تقبل التجزئة.

أما إذا كان الارتباط قابلًا للفصل، فيجوز الطعن بالنسبة للحكم الذي يندرج في نطاق اختصاص النقض، ويُرفض بالنسبة للباقي.

الإطار العملي والقيمي لهذه القيود

إن هذه القيود ليست تضييقًا على المتقاضين، بل هي جزء من فلسفة العدالة الحديثة التي تسعى إلى التوازن بين حق التقاضي واستقرار المراكز القانونية.

ففتح باب النقض على مصراعيه في كل قضية – مهما صغرت – من شأنه أن يعطل العدالة ويثقل كاهل القضاء الأعلى بقضايا تافهة لا تمس المبدأ ولا تثير مسألة قانونية جادة.

كما أن هذه الحالات السبع تُعبّر عن قاعدة ذهبية في العمل القضائي:


“أن محكمة النقض تُعنى بتصحيح القانون لا بتصحيح الوقائع.”


فهي حارس الشرعية القانونية، لا محكمة لإعادة المحاكمة.

الخلاصة

الطعن بالنقض هو وسيلة لتصحيح الخطأ في تطبيق القانون وليس لإعادة النظر في النزاع.

ولا يجوز استعماله إلا في الحدود التي رسمها القانون وفي الحالات التي حددها المشرّع.

فالعدالة لا تتحقق فقط بكثرة الطعون، بل باستقرار الأحكام واحترام حجيتها، تحقيقًا لمبدأ الأمن القانوني الذي هو ركيزة الدولة الحديثة.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Maher Milad Iskander - Managing Partner

إرسل رسالتك

Posts - Page Form Ar
Newsletter

door