Worldwide Locations:

الطعن بالنقض بموجب القانون رقم ١٥٧ لسنة ٢٠٢٤ في مصر


في ظل التحولات البنيوية المتسارعة التي يشهدها نظام العدالة في مصر، أضحى من الضروري إعادة النظر في الأدوات التي تنظم الطعن أمام محكمة النقض، خاصة في ظل التزايد الكبير في عدد الطعون، كثير منها ذو طابع تكراري أو محدود القيمة المالية. وقد برزت آلية “نصاب الطعن بالنقض” كواحدة من أبرز الأدوات التشريعية التي تبناها المشرّع بهدف ترشيد هذا المسار، بما يخفف العبء عن المحكمة العليا ويضمن تخصيص طاقتها للنظر في الطعون التي تثير إشكاليات قانونية مبدئية تمس سلامة النظام القانوني بأسره.

ويُعد القانون رقم ١٥٧ لسنة ٢٠٢٤ آخر حلقة في سلسلة هذه الإصلاحات، حيث رفع الحد الأدنى المالي لجواز الطعن أمام محكمة النقض إلى ٥٠٠,٠٠٠ جنيه مصري، في خطوة تعبّر عن توجه تشريعي واضح لإعادة تعريف وظيفة النقض ضمن منظومة العدالة. غير أن هذا التعديل لا يمكن فهمه في معناه الكامل دون تتبع تطوره التاريخي وتحليل أبعاده المؤسسية والقيمية.

النقض من أداة إنصاف فردي إلى مرجعية قانونية عليا

على مدى عقود، ظل الطعن بالنقض متاحًا بلا قيد مالي، إذ كان القبول مرهونًا فقط بوجود سبب قانوني أو إجرائي جوهري، مثل الخطأ في تطبيق القانون أو بطلان الحكم أو الإخلال بحق الدفاع. وقد كان ذلك النموذج ملائمًا في ظل قلة عدد الطعون ووضوح وظيفة النقض كضامن لإنفاذ القاعدة القانونية على نحو سليم.

إلا أن هذا الوضع بدأ يتغير مع اتساع نطاق المنازعات وزيادة حجم الطعون، مما أدى إلى تحوّل في دور محكمة النقض من كونها حارسًا للمشروعية إلى كيان مثقل بعبء الفصل في طعون شكلية أو قليلة الأهمية. ومن ثم، أصبح من الضروري إدخال معايير كمية (نصاب مالي) تُضاف إلى المعايير الموضوعية لضبط مسار التقاضي.

محطات تشريعية في تنظيم النصاب

١. قبل ٢٠٠٧

منذ صدور قانون المرافعات المدنية والتجارية عام ١٩٦٨، لم يكن الطعن بالنقض مقيدًا بأي نصاب مالي. وقد كرس ذلك مبدأ المساواة في الوصول إلى أعلى درجات التقاضي، دون تمييز بين القضايا من حيث القيمة.

٢. قانون رقم ٧٦ لسنة ٢٠٠٧

أدخل هذا التعديل لأول مرة شرط الحد الأدنى المالي البالغ ١٠٠,٠٠٠ جنيه للطعن بالنقض، ليُرسّخ فكرة أن النقض لم يعد حقًا مطلقًا، بل امتيازًا تنظمه اعتبارات الكفاءة القضائية.

٣. قانون رقم ١٩١ لسنة ٢٠٢٠

تم رفع النصاب إلى ٢٥٠,٠٠٠ جنيه، في استجابة مباشرة للواقع الاقتصادي ومعدلات التضخم، مع الحفاظ على الاستثناءات المتعلقة بالدعاوى غير المقدرة القيمة.

٤. قانون رقم ١٥٧ لسنة ٢٠٢٤

رفع الحد الأدنى إلى ٥٠٠,٠٠٠ جنيه، مع الإبقاء على استثناء الدعاوى التي لا يمكن تحديد قيمتها ماديًا. ويمثل هذا التحول نقلة في فلسفة دور محكمة النقض، لتصبح جهة تفكير قانوني عليا لا ساحة لتصفية النزاعات الفردية الصغيرة.

النطاق الزمني لتطبيق النصاب الجديد

يثور التساؤل حول مدى تطبيق النصاب الجديد على الدعاوى المنظورة: هل يُعتد بتاريخ رفع الدعوى أم بتاريخ صدور الحكم؟

رغم أن الأصل في القواعد الإجرائية أنها تُطبق فور صدورها، فقد حرص المشرّع على النص صراحة في المادة الثانية من قانون ١٥٧ لسنة ٢٠٢٤ على أن الدعاوى المقامة قبل ١ أكتوبر ٢٠٢٤ تظل خاضعة للنصاب السابق، التزامًا بمبدأ الأمان التشريعي وحمايةً للمراكز القانونية القائمة وقت صدور القانون.

الاستثناءات من شرط النصاب

استثنى المشرّع فئات محددة من الدعاوى التي لا يُشترط فيها بلوغ النصاب المالي، وتشمل على سبيل المثال:

  • الدعاوى المتعلقة بإثبات أو نفي النسب
  • الطعون على القرارات الإدارية
  • المنازعات ذات الطابع المستمر أو غير القابل للتقدير المالي

لكن هذا الاستثناء لا يخلو من التحديات، حيث تبقى سلطة القاضي التقديرية حاسمة في تصنيف الدعوى ضمن هذه الفئة، مما يفتح الباب أمام تباين في التطبيق، ويستدعي لاحقًا تدخلًا توجيهيًا من محكمة النقض أو تعديلًا تشريعيًا أكثر دقة.

مقترح استحداث دوائر متخصصة للطعون منخفضة القيمة

رغم وجاهة التوجه التشريعي نحو رفع النصاب، إلا أنه لا بد من تأكيد أن تقييد الطعن أمام محكمة النقض لا يعني إقصاء المتقاضين ذوي النزاعات المحدودة القيمة من الرقابة القضائية. وفي هذا الإطار، كان يمكن للمشرّع أن يستلهم نموذج “دوائر الجنايات التي تنظر نقض الجنح”، ويُنشئ دوائر نقض مدنية متخصصة للفصل في الطعون التي تقل قيمتها عن النصاب المالي.

ويشترط على هذه الدوائر الالتزام التام بالمبادئ القانونية الصادرة عن محكمة النقض، دون أن يكون لها سلطة الخروج على تلك القواعد المستقرة، بما يحقق العدالة الإجرائية ويوحّد التطبيق القانوني في آن واحد. وبهذا يظل حق التقاضي مكفولًا للجميع، مع حماية المحكمة العليا من الإنهاك وإبقاء وظيفتها الأساسية في تطوير الفقه القضائي وتوحيد الاجتهاد.

خاتمة

يتضح من العرض السابق أن التطور التشريعي لنصاب الطعن بالنقض في مصر لم يكن مجرّد استجابة ظرفية لزيادة عدد القضايا، بل يُمثّل تحوّلًا جوهريًا في فهم وظيفة محكمة النقض ودورها في ترسيخ وحدة التفسير القانوني. وقد شكّل قانون ١٥٧ لسنة ٢٠٢٤ محطة مفصلية في هذا المسار، إذ رفع النصاب المالي على نحو يضمن أن تُخصص موارد المحكمة العليا للفصل في الطعون التي تثير إشكاليات قانونية جوهرية.

ومع ذلك، فإن تقييد الطعن بالنقض في الدعاوى ذات القيمة المنخفضة لا ينبغي أن يُفضي إلى إهدار حق التقاضي، خاصة في المسائل التي، رغم محدودية قيمتها المالية، قد تنطوي على مراكز قانونية مشروعة تستحق المراجعة. ومن ثم، فإن المقترح بإنشاء دوائر نقض مدنية متخصصة للفصل في الطعون منخفضة القيمة – مع التزامها بتطبيق المبادئ القضائية المستقرة – يُمثل حلاً وسطًا رشيدًا، يحقق المعادلة المطلوبة بين ترشيد مسار العدالة وحماية الحقوق.

إن تحقيق الفعالية القضائية لا ينبغي أن يكون على حساب العدالة الإجرائية، وإنما من خلال تطوير أدوات الطعن بما يُبقي على جوهر الحق ويضبط آليات ممارسته، وهو ما يُعد خطوة ضرورية ضمن رؤية شاملة لتحديث المنظومة القضائية في مصر.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Noor Mahdy - Attorney at Law

إرسل رسالتك

Posts - Page Form Ar
Newsletter

door