القواعد الضريبية للخدمات الرقمية المقدمة في مصر
يشهد العالم منذ عقدين تحولًا اقتصاديًا جذريًا نتيجة الثورة الرقمية التي غيّرت طبيعة التجارة والخدمات الدولية. لم تعد الشركات بحاجة إلى فروع أو مكاتب فعلية في كل بلد لتوليد الدخل؛ إذ يمكن اليوم لشركة في سنغافورة أو دبلن أن تقدم خدمات برمجية لآلاف العملاء في القاهرة أو الإسكندرية، وتحقق أرباحًا كبيرة دون أن تطأ قدم موظف واحد أرض مصر.
في هذا السياق، واجهت النظم الضريبية التقليدية — المصمّمة لعصر التجارة المادية — مأزقًا في التعامل مع هذا الواقع الجديد: كيف يمكن فرض الضريبة على شركة غير مقيمة تولّد دخلاً من سوق محلي دون وجود مادي فيها؟
لقد دفعت هذه الإشكالية العديد من الدول، ومن بينها مصر، إلى إعادة تعريف مفاهيم “مصدر الدخل” و”الحضور الدائم” و”الخدمات الرقمية” في تشريعاتها الضريبية.
الإطار القانوني المصري
يُعد قانون ضريبة الدخل المصري رقم ٩١ لسنة ٢٠٠٥ حجر الأساس في النظام الضريبي المصري. ورغم أن القانون وُضع في زمن لم يكن الاقتصاد الرقمي قد ازدهر بعد، فإن التفسيرات الحديثة لمفهوم “مصدر الدخل” فتحت الباب أمام إخضاع الإيرادات الرقمية الأجنبية للضريبة متى كانت الخدمات تُستهلك داخل مصر.
وفقًا للمادة (56) من القانون، تُفرض الضريبة على دخل غير المقيمين إذا كان مصدر هذا الدخل في مصر. وتشمل هذه الحالة الخدمات المقدَّمة من الخارج والمستخدمة داخل مصر، حتى لو لم يكن مزود الخدمة لديه فرع أو منشأة داخل البلاد.
بناءً على ذلك، تُعد الخدمات الرقمية — مثل اشتراكات SaaS، والإعلانات الإلكترونية، والتسويق عبر الإنترنت، وخدمات الاستشارات الرقمية — دخلاً مصري المصدر متى استُخدمت داخل الدولة أو استفاد منها عميل مصري.
التطورات الأخيرة
في السنوات الأخيرة أعلنت مصلحة الضرائب المصرية (ETA) عن توجه واضح لتوسيع نطاق تطبيق الضريبة على الاقتصاد الرقمي، إدراكًا منها للتحول الكبير الذي يشهده العالم في أنماط التجارة والخدمات الإلكترونية. فقد أصبح جزء متزايد من النشاط الاقتصادي يتم عبر الإنترنت دون وجود فعلي لمقدمي الخدمات داخل الدولة، الأمر الذي استدعى تحديث الإطار الضريبي ليتواكب مع هذا الواقع الجديد.
وفي عام ٢٠٢٣ اتخذت المصلحة خطوة مهمة نحو التحول الرقمي من خلال إطلاق نظام متكامل للتسجيل الضريبي الإلكتروني، يستهدف دمج مزوّدي الخدمات الرقمية غير المقيمين ضمن المنظومة الضريبية المصرية. ويشمل ذلك الشركات التي تقدم خدمات رقمية عبر الحدود مثل شركات البرمجيات السحابية (SaaS)، ومنصات الإعلان والتسويق الإلكتروني، ومزوّدي المحتوى الترفيهي أو التعليمي عبر الإنترنت، إضافة إلى منصات الحجز والتطبيقات التي تقدم خدماتها للعملاء داخل مصر.
وتؤكد تعليمات مصلحة الضرائب أن الشركات الأجنبية التي تحقق دخلاً من السوق المصري باتت مطالبة بالتسجيل كمكلّف ضريبي، حتى في حالة عدم وجود كيان قانوني لها داخل البلاد. فالعبرة في تقدير الالتزام الضريبي أصبحت ترتبط بمصدر الدخل ومكان استهلاك الخدمة وليس بالمكان الفعلي لمقدّمها. ويعكس هذا التوجه رغبة الدولة في تحقيق العدالة الضريبية بين الأنشطة التقليدية والرقمية، وضمان مساهمة الاقتصاد الرقمي في الإيرادات العامة للدولة.
ضريبة الخصم عند المنبع
تُعد ضريبة الخصم عند المنبع إحدى الركائز الأساسية في النظام الضريبي المصري، وخصوصًا فيما يتعلق بالمدفوعات التي تُحوَّل إلى جهات غير مقيمة مقابل خدمات رقمية. فعندما تقوم شركة مصرية بالتعامل مع شركة أجنبية لتوريد خدمات عبر الإنترنت، تصبح الشركة المصرية بموجب القانون “جهة خصم” تتحمل مسؤولية اقتطاع الضريبة المستحقة عند المنبع قبل تحويل أي مبالغ إلى الخارج.
وتبلغ النسبة العامة للخصم عشرين في المائة على الخدمات المقدّمة لغير المقيمين، ما لم تنص القوانين أو الاتفاقيات الدولية على خلاف ذلك. أما في حال وجود اتفاقية منع ازدواج ضريبي (DTA) بين مصر والدولة التي تنتمي إليها الجهة الأجنبية، فيمكن تطبيق نسبة أقل أو الإعفاء الكامل من الخصم، بشرط أن يتم تقديم شهادة الإقامة الضريبية الصادرة من سلطة الضرائب الأجنبية المعنية، إلى جانب إثبات المستفيد الحقيقي من الدخل لضمان الشفافية ومنع إساءة استخدام الاتفاقيات الضريبية.
ولتوضيح ذلك يمكن ذكر المثال التالي: إذا قامت شركة في القاهرة بسداد مبلغ مائة ألف جنيه مصري إلى مزوّد خدمات سحابية (SaaS) أجنبي في ألمانيا، فإنها تلتزم بخصم عشرين ألف جنيه وسدادها مباشرة إلى مصلحة الضرائب المصرية. غير أن هذه النسبة يمكن أن تنخفض إلى عشرة في المائة أو حتى صفر في حال تقديم شهادة إقامة ألمانية سارية المفعول وفقًا لأحكام اتفاقية منع الازدواج الضريبي الموقعة بين مصر وألمانيا.
ويُبرز هذا الإجراء أهمية وعي الشركات المصرية بالتزاماتها القانونية تجاه ضريبة الخصم عند المنبع، إذ إن الإخلال بتطبيق الخصم أو التأخير في سداد المبالغ المستحقة قد يؤدي إلى فرض غرامات مالية كبيرة ومساءلة ضريبية، في حين أن الالتزام الصحيح يمنح الشركات مزيدًا من الثقة القانونية ويعزز مصداقيتها في التعاملات الدولية.
المفهوم الجديد للمنشأة الدائمة الرقمية
أحد أكثر التحديات إثارة للجدل يتمثل في تعريف المنشأة الدائمة (Permanent Establishment – PE) في البيئة الرقمية.
فبينما يشترط التعريف التقليدي وجود كيان فعلي مثل مكتب أو مصنع أو وكيل، فإن الواقع الحديث يشهد وجود منشآت رقمية بالكامل تُدار عبر الإنترنت وتُولّد دخلاً حقيقيًا من دول متعددة.
على الرغم من أن القانون المصري لم يحدّد بعد مفهوم “المنشأة الرقمية” صراحةً، فإن مصلحة الضرائب يمكنها الاستناد إلى مبدأ مصدر الدخل لتوسيع نطاق التطبيق.
وفي المستقبل القريب، من المرجّح أن تتبنى مصر تعريفًا مشابهًا لتوصيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي تعرّف المنشأة الرقمية على أساس وجود “تفاعل اقتصادي جوهري ومستمر” مع المستخدمين داخل الدولة، حتى من دون وجود مادي.
ضريبة القيمة المضافة (VAT) على الخدمات الرقمية
إلى جانب ضريبة الدخل، تخضع الخدمات الرقمية كذلك لضريبة القيمة المضافة بموجب القانون رقم ٦٧ لسنة ٢٠١٦، الذي وسّع نطاق الخضوع ليشمل المعاملات الإلكترونية والخدمات المقدمة عبر الإنترنت. وقد أدركت مصلحة الضرائب المصرية الحاجة إلى معالجة هذا القطاع سريع النمو، فأصدرت في عام ٢٠٢٢ تعليمات تنفيذية تفصيلية توضح كيفية تطبيق ضريبة القيمة المضافة على الخدمات الرقمية والالكترونية.
وتقوم فلسفة التشريع المصري على مبدأ أن الخدمة تُعد خاضعة للضريبة في الدولة التي تُستهلك فيها، بصرف النظر عن مكان وجود مقدم الخدمة. وبناءً على ذلك، فإن أي خدمة رقمية تُقدَّم لعميل داخل مصر، سواء من شركة محلية أو أجنبية، يجب أن تخضع لضريبة القيمة المضافة بنسبة أربعة عشر في المائة.
وفي المعاملات بين الشركات (B2B)، أي عندما يتعامل كيان مصري مع شركة أجنبية للحصول على خدمات رقمية لأغراض تجارية، فإن المسؤولية تقع على العميل المصري الذي يتوجب عليه احتساب الضريبة وسدادها لمصلحة الضرائب عبر آلية الخصم العكسي (Reverse Charge). ويهدف هذا النظام إلى ضمان تحصيل الضريبة حتى في حال عدم وجود مقدم الخدمة داخل الدولة.
أما في المعاملات مع الأفراد (B2C)، حيث تُقدَّم الخدمات مباشرة إلى المستهلكين المصريين، فإن مقدم الخدمة الأجنبي هو من يتحمل مسؤولية التسجيل في النظام الضريبي المصري، وجمع ضريبة القيمة المضافة من العملاء المحليين، ثم توريدها إلى مصلحة الضرائب وفقًا للآجال المحددة. وتشمل هذه الفئة شركات البث الرقمي، ومنصات الألعاب، وتطبيقات الاشتراك الشهري، وشركات البرمجيات السحابية العالمية.
ويتماشى هذا النموذج مع الممارسات الدولية المعتمدة في دول الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الاقتصادات الرقمية، ضمن إطار ما يُعرف بـ “ضريبة القيمة المضافة على الخدمات الرقمية (Digital VAT Framework)”، الذي يهدف إلى تحقيق العدالة الضريبية بين النشاط الاقتصادي المحلي والخدمات العابرة للحدود، وضمان مساهمة الاقتصاد الرقمي في الإيرادات العامة للدولة.
إن تطبيق هذه الآلية يعزز من قدرة الدولة على ضبط المعاملات الرقمية، ويحد من فقدان الإيرادات الناتج عن التعاملات غير المسجلة، كما يشجع الشركات الأجنبية على الالتزام بالمعايير الضريبية الدولية، مما يخلق بيئة أكثر شفافية واستدامة في السوق المصري المتنامي.
المنظور الدولي من BEPS إلى FATCA وCRS
لا يمكن فهم النظام الضريبي المصري بمعزل عن الاتجاهات العالمية في مكافحة التهرب الضريبي.
فمصر عضو فعّال في مبادرة BEPS (تآكل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح) الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والتي تهدف إلى ضمان فرض الضريبة في المكان الذي تُخلق فيه القيمة الاقتصادية الحقيقية.
كما انضمت مصر إلى اتفاقيات تبادل المعلومات الضريبية الدولية مثل FATCA (مع الولايات المتحدة) وCRS (مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، ما يمنحها قدرة أكبر على تتبع الدخل العابر للحدود.
هذه الخطوات تضع مصر ضمن منظومة دولية تُلزم الشركات الأجنبية بالشفافية والإفصاح المالي الكامل، خاصة في قطاع الخدمات الرقمية الذي يتميز بتعقيد هيكله التشغيلي.
التحديات التي تواجه مزوّدي الخدمات الرقمية الأجانب
على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته مصر في تنظيم الضرائب على الاقتصاد الرقمي، فإن الشركات الأجنبية التي تقدم خدمات رقمية داخل السوق المصري ما زالت تواجه مجموعة من التحديات القانونية والتنظيمية والإجرائية التي تؤثر على قدرتها على الامتثال بكفاءة واستقرار.
أولًا: غياب الوضوح التنظيمي
لا يزال الإطار القانوني بحاجة إلى مزيد من التحديد فيما يتعلق ببعض المفاهيم الجوهرية مثل “المنشأة الرقمية” و”موقع الاستهلاك الفعلي للخدمة”. فغياب تعريفات دقيقة لهذه المفاهيم يخلق حالة من الغموض أمام الشركات الأجنبية التي تحاول تحديد ما إذا كانت أنشطتها تُعد خاضعة للضريبة في مصر أم لا. كما يفتح المجال لتفسيرات متباينة من قبل الإدارات الضريبية والمكلفين على حد سواء.
ثانيًا: ازدواج الالتزام الضريبي
قد تتعرض الشركات الرقمية الأجنبية لخطر الازدواج الضريبي، أي فرض الضريبة على نفس الدخل في بلد الإقامة ومصر في الوقت ذاته، خصوصًا في الحالات التي لا توجد فيها اتفاقية منع ازدواج ضريبي مفعّلة أو عندما يصعب تطبيقها عمليًا. ويُعد هذا أحد أكثر التحديات شيوعًا في الاقتصاد الرقمي، حيث تتداخل القواعد الضريبية عبر الحدود، ويصبح تحديد “مكان توليد القيمة” مسألة معقدة.
ثالثًا: عبء الامتثال والإدارة الضريبية
يتطلب التسجيل في النظام الضريبي المصري وتقديم الإقرارات الدورية والفواتير الإلكترونية مستوى عاليًا من التنظيم الإداري والقدرات التقنية. وغالبًا ما تواجه الشركات الأجنبية الصغيرة أو الناشئة صعوبات في استيعاب هذه المتطلبات، خاصة مع اختلاف اللغة، وتعدد النظم، وتعقيد الإجراءات الإلكترونية. وقد يؤدي أي تأخير أو خطأ في الإقرار إلى فرض غرامات مالية أو تعليق التسجيل الضريبي.
رابعًا: التسعير التحويلي والمعاملات بين الأطراف المرتبطة
الشركات متعددة الجنسيات التي تقدم خدمات رقمية من خلال كيانات تابعة مطالبة بتطبيق مبدأ السعر المحايد (Arm’s Length Principle) وتوثيقه عبر ملفات رئيسية ومحلية، وفقًا لمتطلبات مصلحة الضرائب المصرية. ويشمل ذلك تقديم تقارير تتعلق بتوزيع الأرباح، واستخدام الملكية الفكرية، ومعدلات الأرباح بين الفروع. عدم الالتزام بهذه المتطلبات قد يؤدي إلى إعادة تقييم الأرباح أو فرض ضرائب إضافية.
خامسًا: ضريبة القيمة المضافة على الخدمات الرقمية
تطبيق نظام الخصم العكسي في المعاملات بين الشركات أو التسجيل المباشر في حالة التعامل مع الأفراد يضيف عبئًا محاسبيًا إضافيًا على الشركات الأجنبية. إذ يتعين عليها إعداد أنظمة فوترة دقيقة، وتحديد ما إذا كان العميل مصريًا أو مقيمًا، وضمان صحة معدلات الضريبة المطبقة على كل معاملة. هذه المتطلبات قد تبدو معقدة بالنسبة للشركات التي لم تبنِ بعد بنية مالية محلية في مصر.
في المجمل، تمثل هذه التحديات اختبارًا لقدرة الشركات الأجنبية على التكيف مع البيئة الضريبية المصرية التي تشهد تطورًا سريعًا نحو الرقمنة والشفافية. غير أن التعامل الاستباقي مع هذه المتطلبات من خلال التخطيط الضريبي المدروس، والاستعانة بمستشارين محليين، وتبني أنظمة إدارة إلكترونية متقدمة، يمكن أن يحوّل هذه العقبات إلى فرص لتعزيز الامتثال والثقة في السوق المصري.
خاتمة
تسعى مصر إلى إعادة تعريف مفهوم العدالة الضريبية في العصر الرقمي، بحيث تُفرض الضريبة وفقًا لمكان توليد القيمة الفعلية لا لمكان الوجود القانوني.
ومع توسع الاقتصاد الرقمي، ستتزايد أهمية فهم القواعد الضريبية المصرية، ليس فقط لتجنّب المخاطر، بل أيضًا لاستغلال الفرص التي تقدمها السوق المصرية كواحدة من أكبر أسواق التكنولوجيا والإنترنت في الشرق الأوسط وإفريقيا.
إن إدراك الشركات الأجنبية أن مصر لم تعد “سوقًا استهلاكية فقط” بل أصبحت “ولاية ضريبية رقمية” هو الخطوة الأولى نحو إدارة ناجحة ومستدامة للضرائب في البيئة الرقمية الجديدة.
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com