حد الثلاثين مليون والسعر المحايد فى مصر
لم يعد السعر المحايد في النظام الضريبي المصري مفهومًا نظريًا أو أداة فنية تُستدعى عند إعداد ملفات التسعير فقط، بل أصبح عنصرًا مركزيًا في إدارة المخاطر الضريبية وفي كيفية تعامل الإدارة الضريبية مع الوعاء الخاضع للضريبة. فالنزاع حول السعر المحايد لا ينشأ عادة من خلاف على رقم مجرد، وإنما من خلاف أعمق حول توصيف الدور الاقتصادي للشركة داخل المجموعة، وحول قدرة الممول على إثبات أن تسعيره يعكس واقع السوق وليس أثر علاقة الارتباط.
السؤال الذي يحكم أي فحص جاد لم يعد: هل السعر قريب من السوق؟ بل أصبح: هل يمكن الدفاع عن هذا السعر أمام سلطة فحص تبحث عن قرائن، واتساق، وهوية اقتصادية متماسكة؟
حد الثلاثين مليون جنيه بين جوهر الالتزام وشكله الإجرائي
رفع حد الالتزام بتقديم دراسة تسعير المعاملات بين الأشخاص المرتبطة إلى ثلاثين مليون جنيه لا يمس جوهر مبدأ السعر المحايد، ولا يُنشئ استثناءً من تطبيقه، وإنما يعيد توزيع عبء التوثيق والامتثال الإجرائي. فالسعر المحايد واجب التطبيق متى وُجدت علاقة ارتباط ومعاملة ذات أثر ضريبي، سواء تجاوزت المعاملات هذا الحد أم لم تتجاوزه.
الدلالة الحقيقية للرقم تكمن في مستوى التدقيق المتوقع وطبيعة الملف المطلوب. فالشركات التي تتجاوز هذا الحد تدخل عمليًا في نطاق توقع فحص أكثر تفصيلًا، ويُنظر إلى ملف التسعير باعتباره عنصرًا أساسيًا في تقييم الوعاء. أما الشركات التي تقل معاملاتها عن هذا الحد، فهي لا تُعفى من المساءلة، لكنها تتحرر نسبيًا من عبء تقديم ملف متكامل مسبقًا، مع بقاء عبء التبرير قائمًا عند السؤال.
السعر المحايد باعتباره قاعدة إثبات لا معيارًا تجاريًا
الخلط الشائع في التطبيق العملي هو التعامل مع السعر المحايد بوصفه معيارًا تجاريًا بحتًا، في حين أن الواقع الضريبي يجعله قاعدة إثبات قبل أي شيء آخر. الإدارة الضريبية لا تحتاج لإثبات سوء النية أو التلاعب الصريح، بل يكفيها أن ترى أن رواية الممول غير مكتملة أو غير متسقة مع الواقع الاقتصادي، لتنتقل من مناقشة السعر إلى إعادة بناء الوعاء.
هنا يتحول العبء فعليًا إلى الممول، الذي يجد نفسه مطالبًا بإثبات أن ما قام به لم يكن نتيجة علاقة الارتباط، بل نتيجة منطق اقتصادي مستقل. وكلما كان هذا الإثبات ضعيفًا أو متأخرًا أو متناقضًا، كلما زادت مساحة التقدير لدى جهة الفحص.
إعادة توصيف المعاملة كنقطة مفصلية في النزاع
أخطر ما يواجهه أي ملف تسعير ليس الاعتراض على نسبة هامش أو شركة مقارنة، بل انتقال الفحص إلى إعادة توصيف المعاملة أو الدور الاقتصادي للشركة. فعندما ترى جهة الفحص أن الوصف الذي بنى عليه الممول تسعيره لا يعكس الواقع، فإنها لا تلتزم بالمنهج أو المقارنات التي استخدمها، بل تعيد توصيف النشاط برمته.
قد تتحول الشركة من موزع محدود المخاطر إلى موزع كامل المخاطر، أو من مقدم خدمات مساندة إلى كيان يخلق قيمة تشغيلية جوهرية، أو من مصنع تعاقدي إلى منتج يتحمل مخاطر السوق. ومع هذا التحول، ينهار البناء الحسابي بأكمله، لأن أساسه الوصفي لم يعد مقبولًا.
لماذا تفشل ملفات تسعير “مكتوبة جيدًا” في الفحص؟
كثير من ملفات التسعير تنهار رغم احترافيتها الشكلية، لأنها تُكتب بمنطق دفاعي لاحق للواقعة، لا بمنطق إثبات سابق عليها. الفحص لا يختبر اللغة ولا المنهج بقدر ما يختبر الاتساق بين الرواية المكتوبة وبين الواقع التشغيلي والمحاسبي.
عندما تقول الشركة إنها لا تتحمل مخاطر السوق، بينما تظهر القوائم المالية تقلبات في الربحية مرتبطة مباشرة بالسوق المحلي، ينشأ تناقض قاتل. وعندما تصف نفسها بأنها كيان منخفض المخاطر بينما هي التي تحدد الأسعار وتدير علاقات العملاء وتتحمل الديون، يصبح الوصف غير قابل للتصديق. هذه التناقضات لا تُحل بمزيد من الشرح، بل بتغيير النظرة إلى كيفية بناء الملف من الأساس.
من يخلق القيمة الاقتصادية كمعيار حاسم
في نهاية كل تحليل، تعود الإدارة الضريبية إلى سؤال جوهري واحد: من خلق القيمة؟ هذا السؤال يتجاوز المنهجيات والمقارنات ويصل مباشرة إلى جوهر النشاط. الربح، في المنطق الضريبي الحديث، يجب أن يذهب إلى الكيان الذي يؤدي الوظائف الجوهرية ويتحمل المخاطر ويمتلك أو يسيطر على الأصول ذات الصلة.
أي محاولة لفصل الربح عن هذه العناصر تضعف الموقف القانوني، مهما كانت الحسابات منضبطة. ولهذا، فإن أخطر الأخطاء هو بناء تسعير يُرضي المعادلة الحسابية لكنه يتجاهل الواقع الاقتصادي.
الخدمات داخل المجموعة بوصفها بؤرة النزاع الأكثر شيوعًا
الخدمات داخل المجموعة تمثل أحد أكثر مسارات النزاع تعقيدًا، ليس لأنها غير مشروعة، بل لأنها تتطلب إثباتًا مركبًا. لا يكفي وجود عقد أو فاتورة، بل يجب إثبات المنفعة الفعلية وعدم الازدواج مع الوظائف المحلية ومعقولية التكلفة وطريقة توزيعها.
غياب أي عنصر من هذه العناصر يفتح الباب لتكييف الخدمة باعتبارها تحميلًا مصطنعًا للأرباح، لا نشاطًا اقتصاديًا حقيقيًا. ومن هنا، فإن التعامل مع هذا النوع من المعاملات بمنطق محاسبي بحت دون بعد تشغيلي هو وصفة جاهزة للنزاع.
القروض الداخلية والإتاوات بين الشكل والمضمون
في القروض الداخلية، لا تنحصر المساءلة في سعر الفائدة، بل تمتد إلى وجود القرض ذاته ومنطقه الاقتصادي وقدرة الشركة على تحمله. وفي الإتاوات، لا يكفي إثبات الملكية القانونية للأصل غير الملموس، بل يجب إثبات السيطرة الاقتصادية والمساهمة الفعلية في خلق القيمة.
التمييز بين الملكية القانونية والملكية الاقتصادية هو أحد أكثر النقاط حساسية في الفحص، وأي خلط بينهما يضعف الموقف الدفاعي بصورة جوهرية.
إدارة النزاع تبدأ من أول سؤال فحص
النزاع لا يبدأ بقرار ربط، بل يبدأ بسؤال. وطريقة الرد على الأسئلة الأولى غالبًا ما تحدد مسار الملف بالكامل. الردود المتأخرة أو العامة أو غير المدعومة تُفسَّر باعتبارها مؤشرات عدم شفافية، وتدفع الفحص إلى التشدد. أما الردود المبكرة المتسقة والمدعومة بمستندات تشغيلية، فغالبًا ما تمنع التصعيد.
وهنا يظهر الفارق بين شركة تدير السعر المحايد كنظام حوكمة، وأخرى تتعامل معه كملف دفاعي لاحق.
حسن النية كعنصر بنيوي لا كشعار
في تسعير المعاملات، حسن النية لا يُستدل عليه بالتصريحات، بل بالبنية الداخلية للقرارات. وجود سياسة تسعير مكتوبة، واعتماد مسبق للمعاملات، ومراجعة دورية، وتوثيق للقرارات، كلها عناصر تُقرأ بوصفها مؤشرات التزام وليست مجرد إجراءات شكلية.
كلما بدا الملف انعكاسًا لنظام قائم قبل الفحص، لا رد فعل عليه، كلما تقلصت مساحة النزاع، حتى عند وجود اختلاف في الرأي.
ختاما
السعر المحايد في مصر لم يعد مسألة تقنية معزولة، بل أصبح إطارًا متكاملًا يتقاطع فيه الاقتصاد بالقانون بالإجراءات. وحد الثلاثين مليون جنيه يعيد تنظيم الامتثال الإجرائي، لكنه لا يغير من حقيقة أن المعركة الحقيقية تُحسم في مستوى التوصيف الاقتصادي وقابلية الإثبات.
الشركات التي تبني تسعيرها على فهم عميق لدورها الحقيقي داخل المجموعة، وتوثق هذا الفهم قبل الفحص، لا تخشى المساءلة. أما التي تعتمد على حلول شكلية أو دفاعات لاحقة، فستظل عرضة لإعادة التوصيف وتقدير الوعاء، مهما تغيّرت الأرقام والحدود.
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com