Worldwide Locations:

إلغاء المعارضة الاستئنافية في الجنح في مصر

يُعدّ قانون الإجراءات الجنائية العمود الفقري للعدالة الجنائية في أي دولة حديثة، إذ يرسم الخطوط الفاصلة بين حق المجتمع في العقاب وحق الفرد في الدفاع عن نفسه. ومن هنا جاء التعديل الوارد في مشروع قانون الإجراءات الجنائية المصري الجديد بإلغاء ما يُعرف بـ«المعارضة الاستئنافية في الجنح» — وهو تعديل يمثل تحوّلًا نوعيًا في فلسفة التقاضي الجنائي، من التوسّع في سُبل الطعن إلى إحكام مسارات العدالة وسرعة الفصل.

لقد شكّل هذا النوع من المعارضة، لعقود طويلة، بابًا خلفيًا للتسويف واستغلال الإجراءات، فأدى إلى تعطيل تنفيذ الأحكام وإضعاف هيبة العدالة. ومن ثم، فإنّ المشرّع إذ ألغاه، لم يُلغِ حقّ الدفاع، وإنما أعاد تنظيمه على نحوٍ يوازن بين ضمان الحقوق الفردية وحماية النظام القضائي من التعطيل.

الخلفية التاريخية لنظام المعارضة الاستئنافية

يُعتبر نظام المعارضة في الأصل وسيلة للطعن في الأحكام الغيابية الصادرة عن محكمة أول درجة، بحيث يُعاد نظر الدعوى وكأنها لم تُنظر من قبل، متى ثبت أن المتهم لم يتمكن من الدفاع عن نفسه.

غير أنّ الممارسة التشريعية المصرية، منذ صدور قانون الإجراءات الجنائية عام 1950، مدّت نطاق هذا الحق إلى المرحلة الاستئنافية، فأُجيز للمتهم الذي صدر ضده حكم غيابي في الاستئناف أن يُعارض فيه.

ورغم وجاهة المبرر الحقوقي لهذا الامتداد، إلا أن التجربة العملية بيّنت أن كثيرًا من المتهمين لجأوا إليه كوسيلة لتعطيل التنفيذ أو لإعادة النزاع من بدايته بعد أن استنفد مراحله الطبيعية.

ومن هنا بدأت الدعوات الفقهية، منذ مطلع الألفية الجديدة، إلى تقييد المعارضة الاستئنافية أو إلغائها كليًا، وهو ما تبناه المشرّع أخيرًا في مشروع القانون الجديد.

فلسفة التعديل – من قاعدة إلى استثناء

اعتمد المشرّع في تعديلاته الأخيرة على فلسفة واضحة:


“لا يُعقل أن تبقى الدعوى الجنائية عالقة إلى ما لا نهاية، تحت ذريعة إعادة المحاكمة في كل مرحلة من مراحلها.”


فأصبح الأصل أن الحكم الاستئنافي الغيابي لا يقبل المعارضة، إلا في حالات استثنائية ضيقة نصت عليها المواد الجديدة على سبيل الحصر، وهي:

  • إذا أعلن المتهم قانونًا للحضور وسُلّم الإعلان لشخصه، ثم تخلف عن الجلسة رغم علمه بها.
  • إذا حضر المتهم عند النداء على الدعوى ثم غادر الجلسة قبل نظرها.
  • إذا حضر بنفسه أو بوكيله في جلسة من الجلسات، ثم انقطع عن الحضور حتى صدور الحكم.

في هذه الحالات فقط، تقبل المعارضة الاستئنافية، باعتبار أن التغيب الجزئي أو الطارئ قد يكون له عذر مشروع، بخلاف الغياب الكامل الذي يُعدّ تفريطًا من المتهم نفسه.

التحليل القانوني للنصوص الجديدة

نصت المادة (397) من المشروع على أن الأحكام الغيابية الصادرة من المحكمة الاستئنافية لا تقبل المعارضة إلا إذا كان الاستئناف مقدَّمًا من النيابة العامة أو المدعي بالحقوق المدنية أو المسئول عنها، وتخلّف الخصم الآخر عن الحضور رغم إعلانه، بشرط أن يقدّم عذرًا مقبولًا.

هذا القيد المزدوج (الصفة + العذر) يضمن أن المعارضة تُمارس فقط في حال وجود مانع قهري حقيقي، وليس لمجرد الكيد أو التسويف.

أما المادة (398)* فقد رتبت على الحكم بإلغاء المعارضة أو بعدم قبولها أن يصبح الحكم الاستئنافي نهائيًا واجب النفاذ*، مع إتاحة وسيلة واحدة لتصحيح المسار وهي نقض الحكم إذا شابه بطلان جوهري في الإجراءات أو الاختصاص.

ويُفهم من هذا البناء التشريعي أن المشرّع يتجه إلى تدرج رقابي أكثر انضباطًا:

  • معارضة واحدة أمام محكمة أول درجة.
  • ثم استئناف واحد أمام محكمة الاستئناف.
  • ثم نقض استثنائي أمام محكمة النقض.

وبذلك يُغلق الباب أمام التكرار والازدواجية في طرق الطعن.

الأثر العملي والتطبيقي

تسريع الفصل في القضايا:

بإلغاء المعارضة الاستئنافية، سيتقلص زمن التقاضي في قضايا الجنح، وهي تمثل نحو 70% من إجمالي القضايا الجنائية، ما يخفف العبء عن القضاء ويُعزز سرعة تنفيذ الأحكام.

الحد من التحايل الإجرائي:
كان المتهمون يستغلون المعارضة الاستئنافية لتجميد التنفيذ أو كسب الوقت لإعادة ترتيب أوضاعهم، وهو ما لم يعد ممكنًا.

تعزيز حجية الأحكام الجنحية:
فبعد صدور الحكم الاستئنافي، لا سبيل لمراجعته إلا بالنقض، ما يعزز الاستقرار القانوني والردع العام.

التحديات المحتملة:
قد تبرز بعض الإشكالات في تقييم “العذر المقبول” لغياب المتهم، مما يستدعي من القضاء الجنائي وضع معايير قضائية دقيقة تضمن وحدة التطبيق وتفادي التناقض.

المقارنة مع النظم القانونية المقارنة

في القانون الفرنسي، الذي يعد أحد المصادر التاريخية للقانون المصري، لا تُقبل المعارضة أمام محكمة الاستئناف إلا في حالات محدودة تتعلق بإثبات خطأ في الإعلان أو مانع قهري حال دون الحضور.

أما في القانون الإيطالي واللبناني، فالاتجاه ذاته قائم: الحكم الاستئنافي الغيابي لا يُعارض فيه، بل يُطعن بالنقض مباشرة.

بذلك يكون المشرّع المصري قد انضم إلى الاتجاه الأوروبي الحديث الذي يهدف إلى تحقيق سرعة الفصل دون المساس بحق الدفاع، عبر تمكين المتهم من الطعن بالنقض بدلاً من إعادة الدعوى أمام نفس المحكمة.

قراءة في الغاية التشريعية

إن إلغاء المعارضة الاستئنافية لا يُقصد به تقليص الضمانات، بل تحقيق نوع من الانضباط الإجرائي في ظل تراكم القضايا الجنحية وتزايد محاولات استغلال الثغرات القانونية.

فالفلسفة الجديدة تسعى إلى إعادة تعريف “حق الدفاع” باعتباره وسيلة مشروعة لحماية العدالة، لا لتعطيلها، وإلى ترسيخ مبدأ أن استقرار الأحكام جزء من العدالة ذاتها.

خاتمة

يمكن القول إن إلغاء المعارضة الاستئنافية في الجنح هو تطور طبيعي في مسار تحديث التشريع المصري، يتناغم مع الاتجاهات المقارنة ويخدم مقاصد العدالة الناجزة.

غير أن نجاح هذا التعديل سيظل رهينًا بتطبيق قضائي رشيد يوازن بين الصرامة الإجرائية والإنصاف القضائي، بحيث لا يُغلق باب العدالة في وجه من حُرم من حقه في الدفاع، ولا يُترك مفتوحًا لمن أراد تعطيلها عمدًا.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Maher Milad Iskander - Managing Partner
door