Worldwide Locations:

الامتثال الضريبي للخدمات الرقمية والتجارة الإلكترونية في مصر

لم يعد الاقتصاد الرقمي اليوم مجرد نشاط مكمّل للاقتصاد التقليدي، بل أصبح قوة مؤثرة تعيد تشكيل أنماط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك على حد سواء. ومع التوسع السريع في التجارة الإلكترونية، والخدمات الرقمية، ومنصات الوساطة عبر الإنترنت، أدرك المشرّع المصري أن تجاهل هذه التحولات يعني ترك فجوة تشريعية ومالية تتعارض مع متطلبات العدالة الضريبية واستدامة الموارد العامة. فالأنشطة الرقمية لم تعد استثناءً أو قطاعًا ناشئًا على الهامش، بل صارت تمثل نسبة متنامية من الناتج المحلي الإجمالي وتستقطب استثمارات ضخمة، ما استوجب ضرورة وضع إطار قانوني يضمن إدماجها في المنظومة الضريبية على نحو منظم وعادل.

وانطلاقًا من هذا الوعي، برزت التشريعات الضريبية المصرية كأدوات رئيسية لإحكام الرقابة على الاقتصاد الرقمي، وفي مقدمتها قانون الضريبة على القيمة المضافة رقم ٦٧ لسنة ٢٠١٦ وقانون الضريبة على الدخل رقم ٩١ لسنة ٢٠٠٥وتعديلاتهما. هذه القوانين، مدعومة بقرارات وزارية حديثة حول التحول الرقمي مثل منظومة الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني، شكّلت معًا البنية المؤسسية التي من خلالها يسعى المشرّع إلى مواكبة التطورات الاقتصادية، وتحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار الرقمي وضمان حق الدولة في مواردها الضريبية.

ضريبة القيمة المضافة على الخدمات الرقمية

يشكّل قانون الضريبة على القيمة المضافة الإطار التشريعي الذي أدخل الخدمات الرقمية إلى قلب المنظومة الضريبية المصرية بوصفها “خدمة” خاضعة للأداء أينما توافرت صلة كافية بمصر. فتعريف الخدمة في المادة (١) جاء موسعًا ومقصودًا، إذ اعتبر كل ما ليس سلعة خدمةً متى أُدِّي داخل البلاد، وذكر صراحةً الخدمات المُقدَّمة بوسائط إلكترونية، بما يقطع الطريق على أي تأويل يحاول استثناء المعاملات الرقمية بدعوى أنها لا تقع في الحيّز المادي التقليدي. هذا الاختيار التشريعي يعكس تبنّي منطق “مكان الاستهلاك” بوصفه معيارًا للولاية الضريبية: فالمادة (٢) تقرر أن الضريبة تُفرض على السلع والخدمات التي تُباع أو تُستورد أو تُؤدّى في مصر، وبالنتيجة تُعامل الخدمة الرقمية المُستهلكة داخل الإقليم—مهما كان مزوّدها ومهما تعددت حلقات الوساطة عبر السحابة والمنصات—معاملة الخدمة المحلية ذاتها من حيث الخضوع للضريبة والالتزامات المرافقة لها.

ومن ثمّ تصبح نقطة التحوّل العملية هي انتقال الواجبات من النص إلى الواقع؛ فالمادة (٤) تُلزم كل من يزاول نشاطًا خاضعًا للضريبة بالتسجيل لدى مصلحة الضرائب متى بلغ حدّ التسجيل المقرر، وهو التزام لا يقتصر على المنشآت المقيمة فحسب، بل يمتد—وفق منطق القانون—إلى مزوّدي الخدمات الرقمية الأجانب حين يستهدف نشاطهم السوق المصرية ويحقّق توريدات خاضعة داخلها. هذا الامتداد لا يقوم على افتراضات نظرية، بل تُرجم إلى إجراءات تنفيذية خلقت مسارًا واضحًا للتعامل مع اللاعبين العالميين في الإعلان والخدمات الرقمية. وعلى هذا الأساس، ألزمت المصلحة شركات كبرى مثل “جوجل” و“ميتا” بتحصيل ضريبة القيمة المضافة على الإعلانات والخدمات المقدَّمة للمستهلك المصري، ضمن أطر تعاون وبروتوكولات رسمية حدّدت مسؤوليات التحصيل والإقرار والسداد، ووفّرت للمموّل المحلي مستوىً أعلى من اليقين الضريبي.

وتتجاوز أهمية هذا التنظيم حدود الحصيلة المالية إلى تأسيس مبدأ تكافؤ الفرص الضريبية بين المزوّد المحلي ونظيره العابر للحدود. فالمنصات الرقمية التي تباشر نشاطها في السوق المصرية تستفيد من بنية تحتية وقوة شرائية ومناخ أعمال يوفّر لها قيمة اقتصادية ملموسة؛ ومن ثَمّ يُعد إخضاعها لالتزامات القيمة المضافة صياغةً حديثة لعلاقة المنفعة والمسؤولية في البيئة الرقمية. ومع تعاظم الاعتماد على منظومتي الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني، تصبح قابلية تتبّع العمليات، وإثبات “محل الاستهلاك” عبر قرائن تقنية وتجارية سليمة، جزءًا لا يتجزأ من الانضباط الضريبي للخدمات الرقمية، بما يعزّز الشفافية ويُحكِم إدماج الاقتصاد الرقمي في القاعدة الضريبية على نحو متّسق مع مقاصد القانون.

الضريبة على الدخل للأنشطة الرقمية

يُشكّل قانون الضريبة على الدخل رقم٩١ لسنة ٢٠٠٥ وتعديلاته الإطار المرجعي لإخضاع الأنشطة الرقمية والأرباح المتولدة عنها للمنظومة الضريبية المصرية، وذلك في سياق سعي الدولة إلى ضمان عدالة ضريبية لا تميّز بين النشاط التقليدي والنشاط القائم عبر المنصات الإلكترونية. فقد نصّت المادة (٦) على أن الضريبة تُفرض على صافي دخل الأشخاص الطبيعيين المقيمين وغير المقيمين عن دخولهم المحققة في مصر، وهو ما يفتح المجال صراحةً لتغطية الدخل الناتج عن الخدمات أو الأنشطة الرقمية متى تحقق داخل الإقليم المصري أو استُهلك فيه. بهذا التوسّع، لم يعد النشاط الرقمي بمنأى عن نطاق الضريبة، بل أصبح جزءًا من وعائها الطبيعي.

وفي ذات السياق، جاءت المادة (٤٧) لتؤكد خضوع أرباح النشاط التجاري والصناعي للضريبة، وهو حكم يسري على التجارة الإلكترونية والمتاجر الافتراضية التي تُدار عبر الإنترنت، حيث تُعتبر عمليات البيع والتوزيع الرقمي صورةً جديدة للنشاط التجاري التقليدي. أما بالنسبة للشركات العالمية أو مقدّمي الخدمات الرقمية غير المقيمين، فقد نص قانون ضريبة الدخل على التزام غير المقيمين ممن يحققون دخلاً من مصر بأداء الضريبة المستحقة، وبذلك تمتد الولاية الضريبية المصرية إلى شركات التكنولوجيا والمنصات الرقمية التي تقدم خدماتها مباشرةً للمستخدم المصري، سواء في مجال الإعلان الرقمي أو البث الترفيهي أو التجارة الإلكترونية.

ولا يقتصر الأمر على الكيانات الاعتبارية، إذ إن الأشخاص الطبيعيين العاملين عبر الإنترنت، من صُنّاع المحتوى على منصات مثل “يوتيوب” و“تيك توك”، والمدونين، وأصحاب المتاجر الصغيرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يخضعون بدورهم للضريبة استنادًا إلى المادة (١٩) التي تقرر خضوع الإيرادات الناشئة عن أي نشاط مهني أو غير تجاري للضريبة. وهذا النص يُعدّ مدخلاً تشريعياً لإدماج فئة واسعة من الأفراد الذين كوّنوا مصادر دخل مستمرة عبر المنصات الرقمية في القاعدة الضريبية الرسمية، بما يحقق المساواة بين من يباشر نشاطه في السوق المادية التقليدية ومن يستغل البنية الرقمية للوصول إلى المستهلكين.

من خلال هذا البناء القانوني، يتضح أن المشرّع المصري لم يعد يتعامل مع الأنشطة الرقمية باعتبارها استثناءً أو منطقة رمادية، بل أدرجها بشكل صريح ومباشر ضمن أحكام الضريبة على الدخل، مانحًا الإدارة الضريبية أدوات واضحة لفرض الضريبة، وضامناً في الوقت نفسه مبدأ تكافؤ الفرص الضريبية بين جميع الممولين مهما اختلفت وسائط نشاطهم.

التحول الرقمي للمنظومة الضريبية

يشكّل التحول الرقمي للمنظومة الضريبية خطوة محورية في استراتيجية الدولة لإحكام الرقابة على المعاملات التجارية، سواء التقليدية أو الرقمية، وضمان اندماجها الكامل في القاعدة الضريبية الرسمية. فقد أدرك المشرّع أن مجرد النصوص التشريعية التي تُخضع الأنشطة الرقمية للضريبة لن تكون كافية من دون آليات تنفيذية دقيقة تمكّن الإدارة الضريبية من تتبّع العمليات، والتحقق من صحتها، وضبط ما قد يُخفى منها. ومن هنا جاء دور المنظومات الرقمية التي طوّرتها وزارة المالية ومصلحة الضرائب بوصفها أدوات عملية لتجسيد هذه الفلسفة.

فبموجب القرار الوزاريرقم ١٨٨ لسنة ٢٠٢٠ فُرض على فئات محددة من الممولين الانضمام إلى منظومة الفاتورة الإلكترونية، لتصبح الفاتورة في صورتها الرقمية المستند الرسمي الوحيد المعبّر عن المعاملة التجارية. هذه الخطوة لم تكن تقنية فحسب، بل أحدثت نقلة نوعية في إمكانية رصد المعاملات التي تتم عبر الإنترنت أو من خلال الوسائط غير الملموسة، إذ أصبح تسجيلها ومشاركتها في قاعدة بيانات مركزية أمراً إلزامياً، يتيح للسلطات الضريبية رؤية أوضح للتدفقات المالية والسلعية والخدمية.

كما جاء القرار الوزاري رقم ٣٨٦ لسنة ٢٠٢١ ليكمل الحلقة من خلال إلزام جهات البيع والتعامل المباشر مع الجمهور باستخدام الإيصال الإلكتروني بدلاً من الورقي، وهو ما يشمل المتاجر التقليدية وكذلك التطبيقات والمنصات الرقمية التي تُقدّم خدمات أو سلعاً للمستهلك المصري. وبهذا باتت العلاقة بين المزوّد والمستهلك محكومة بسجل إلكتروني يُسهّل التحقق، ويحدّ من ظاهرة الاقتصاد غير الرسمي، ويوفر بيانات لحظية للإدارة الضريبية حول حجم وأنماط الاستهلاك.

ويستند وزير المالية في إصدار هذه القرارات إلى المادة (٥) من قانون الضريبة على القيمة المضافة، التي تخوّله وضع القواعد التنفيذية اللازمة لتطبيق أحكام القانون. بذلك، لم يعد التحول الرقمي مجرد خيار تنظيمي بل أصبح التزاماً قانونياً، يربط بين التطور التكنولوجي والامتثال الضريبي، ويمهّد لمرحلة جديدة من الشفافية والحوكمة في إدارة الموارد العامة.

خاتمة

يتضح من مجمل التطورات التشريعية والتنظيمية أن المشرّع المصري لم يتعامل مع الاقتصاد الرقمي بوصفه نشاطًا طارئًا أو استثنائيًا، بل نظر إليه باعتباره مكوّنًا أصيلاً ومتناميًا داخل الدورة الاقتصادية، يستوجب إخضاعه للضريبة شأنه شأن أي نشاط تقليدي. فجاء قانون الضريبة على القيمة المضافة ليؤكد صراحةً خضوع الخدمات المؤداة إلكترونيًا، وجاء قانون الضريبة على الدخل ليبسط ولايته على الدخل المتحقق داخل مصر حتى ولو كان من غير مقيم، بما يضمن تكافؤ الفرص الضريبية بين جميع الممولين.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Tax Department

إرسل لنا رسالتك

Posts - Page Form Ar
Newsletter

door