Worldwide Locations:

إجراءات التقاضي الغيابي في مصر وواجب الإعلان

وقائع تتكرر في الواقع العملي، يُفاجأ فيها المواطن بحكم غيابي لم يعلم بصدوره، ولم يصل إلى علمه أي إعلان حقيقي أو إخطار جدي، ثم يُنفَّذ عليه الحكم فجأة، إما في كمين، أو أثناء إنهاء إجراء إداري، أو بزيارة من جهة الضبط إلى منزله.

وهذه الوقائع لا تُطرح باعتبارها اتهامًا للدولة أو تشكيكًا في مؤسساتها، بل باعتبارها اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على فرض الانضباط في مرحلة التنفيذ، وهي المرحلة الأخطر في أي منظومة عدالة.

فالدولة لا تُقاس فقط بما تُشرّع، بل بما تضمن تنفيذه على الأرض، وبمدى قدرتها على منع تحوّل القاعدة العامة إلى ممارسة انتقائية.

الحكم الغيابي كأداة تنظيم لا كوسيلة مفاجأة

الحكم الغيابي في فلسفة التشريع الجنائي أداة تنظيمية ضرورية لضمان سير العدالة وعدم تعطيلها بفعل التخلف المتعمد.

وقد أحسن المشرّع حين لم يترك هذه الأداة دون ضوابط، بل أحاطها بضمانات واضحة، في مقدمتها إعادة الإجراءات، تأكيدًا على أن الأصل هو حضور المتهم، وسماعه، وتمكينه من الدفاع عن نفسه.

ومن ثم، فإن الحكم الغيابي لا يمثل في ذاته أي انتقاص من الحقوق، طالما استُخدم في إطاره الصحيح، وبُني على إعلان حقيقي يحقق العلم.

الإشكال لا ينشأ من الحكم، بل من فصله عن مقدماته.

الإعلان الجنائي كوظيفة سيادية

الإعلان في القضايا الجنائية ليس مجرد عمل إداري، بل هو وظيفة سيادية تتصل مباشرة بحق الدولة في العقاب، وبحق الفرد في الدفاع.

فالدولة لا تملك أن تُعاقب إلا بعد أن تُعلِم، ولا تُنفذ إلا بعد أن تتحقق من وصول العلم.

ولهذا، فإن الإعلان الذي لا يصل، أو يُنفَّذ صوريًا، لا يُعد مجرد خطأ إجرائي بسيط، بل خللًا في وظيفة من وظائف الدولة الأساسية: تحقيق العلم قبل المساءلة.

وهنا تحديدًا يتلاقى حق الدولة وحق المواطن، لا يتصادمان.

التعليمات القائمة تعكس وعيًا مؤسسيًا متقدمًا

من الإنصاف التأكيد على أن الدولة كانت واعية تمامًا بهذه الإشكالية، وهو ما تجلّى في التعليمات الصريحة التي تقضي بأنه عند ضبط المحكوم عليه غيابيًا، يُعلن بالحكم الغيابي ويُخلى سبيله فورًا، حتى يتمكن من سلوك طريق إعادة الإجراءات.

هذه التعليمات لا تعكس تساهلًا، بل تعكس فهمًا دقيقًا لطبيعة الحكم الغيابي، واعترافًا بأن التنفيذ لا يجوز أن يسبق العلم، ولا أن يحل محل الإخطار.

وهي تعليمات تُجسد فلسفة دولة قانون ناضجة، لا دولة رد فعل.

الخلل التنفيذي كخطر صامت على الدولة

ما يلاحظ في التطبيق العملي أحيانًا هو تراخٍ أو تفاوت في الالتزام بهذه التعليمات.

وهذا التفاوت، وإن بدا محدودًا أو فرديًا، يحمل في طياته خطرًا مؤسسيًا صامتًا، لأنه يحوّل القاعدة العامة إلى مسألة تقدير شخصي، ويجعل حقوق الأفراد مرهونة بظروف الضبط لا بضوابط القانون.

وهنا لا يكون الضرر واقعًا على المواطن وحده، بل على الدولة ذاتها، لأن الانتقائية في التنفيذ تُضعف وحدة التطبيق، وهي جوهر سيادة القانون.

الحزم المؤسسي بوصفه تعبيرًا عن قوة الدولة

الحزم المطلوب هنا ليس تشددًا، بل انضباطًا مؤسسيًا.

فالدولة القوية لا تتسامح مع الإهمال في تطبيق قواعد وضعتها بنفسها، ولا تسمح بأن تتحول التعليمات إلى توجيهات اختيارية.

ومحاسبة الإهمال الفردي ليست انتقاصًا من أحد، بل حماية للمؤسسة، ورسالة واضحة بأن القانون يُطبق بذات الجدية التي شُرّع بها.

الخاتمة

هذا المقال لا يخاصم الدولة، بل ينطلق من الإيمان بها، وبقدرتها على ضبط ممارساتها، وتصحيح أي خلل تنفيذي يظهر في الواقع العملي.

وما نطلبه ليس تغييرًا في القواعد، ولا إضافة أعباء جديدة، بل تفعيلًا حازمًا لما هو قائم بالفعل.

نطلب أن يُعلن الحكم قبل تنفيذه،
وأن تُحترم التعليمات التي وُضعت بعناية،
وأن لا يتحمل المواطن عبء تقصير فردي.

بهذا وحده تُصان هيبة الدولة،
وتترسخ الثقة في مؤسساتها،
وتتحول دولة القانون من نصوص مكتوبة إلى ممارسة يومية حقيقية في الجمهورية الجديدة.

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

Written By

Maher Milad Iskander - Managing Partner
door