المادة ٣٦٨ في مشروع قانون الأجراءات: “عبارة حسن النية” عبث تشريعي
في عالم القانون، لا يُعد أكثر خطورة من النصوص الفضفاضة التي تُفتح أبواب التأويل على مصراعيها، وتُلقي بالحقوق في مهب الريح. ومن أسوأ ما ابتُليت به النصوص التشريعية الحديثة في مصر، تلك العبارات التي تستجدي الرضا الشعبي أو تبدو براقة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تُمثل اعتداء صارخًا على مبدأ سيادة القانون. ومن بين هذه العبارات، تقف “حسنوا النية” في المادة ٣٦٨ من مشروع قانون الإجراءات الجنائية كدليل حي على الارتباك التشريعي وغياب الانضباط المفاهيمي.
المادة ٣٦٨، التي تُجيز تجميد أموال المحكوم عليه غيابيًا وتُبطل تصرفاته، استدركت في محاولة ضعيفة لحماية الغير بعبارة جوفاء تقول: “تُراعى في جميع الأحوال حقوق الغير حسن النية.” وكأن المشرّع قد ألقى بقنبلة قانونية، ثم ترك شظاياها ليُحدد القضاء لاحقًا من يصيبه الأذى ومن ينجو! فهل تُترك المراكز القانونية للمواطنين والمستثمرين رهينة لمعيار مطاطي يتغير بتغير القاضي أو الظروف؟
”حسن النية“… معيار القانونيين أم أداة تعطيل الحقوق؟
في أصول الفقه القانوني، “حسن النية” مبدأ سامٍ يُراد به حماية من يتصرف دون علم بوجود عيب أو بطلان في التصرف. لكن حين يُزج بهذا المفهوم في نص يتعلق ببطلان شامل لكل تصرفات شخص صدرت ضده إدانة غيابية، فإن الأمر لم يعد حمايةً للغير، بل تشويهًا للعدالة ذاتها. كيف يمكن التوفيق بين بطلان التصرف من جهة، وبين حماية من تعامل بحسن نية من جهة أخرى؟ وما هي حدود هذا الحسن؟ ومن ذا الذي يُقنع المستثمرين في مصر بأن تصرفاتهم محصنة إذا كانت قائمة على نوايا لا يمكن إثباتها إلا بعد معركة قضائية ضارية؟
القضاء بين سندان النص ومطرقة الواقع
النص بهذا الشكل يُقحم القاضي في مسألة تقديرية خطيرة: كيف يتحقق من حسن نية المتعامل؟ هل عليه أن يبحث في أعماق النفوس أم يستند إلى أوراق ظاهرها الصحة؟
هذا الاضطراب التشريعي يُهدد بثلاث نتائج كارثية:
- انعدام الاستقرار القانوني: فلا أحد يعلم مسبقًا إن كانت تصرفاته ستُحمى أم ستُهدر.
- ازدواجية الأحكام: قضاة مختلفون سيصدرون أحكامًا متباينة في وقائع متشابهة.
- إرهاب قانوني للمجتمع المالي: الكل يعيش في خوف من أن يُسحب البساط من تحت قدميه بحجة أنه لم يكن “حسن النية” بما يكفي!
استثمار في المجهول
أي مستثمر عاقل يسأل: إذا تعاملت مع شركة أو فرد تبيّن لاحقًا أنه مدان غيابيًا، فهل تظل معاملاتي معه قائمة أم تُلغى؟ وإذا قيل له: “الأمر يتوقف على ما إذا كنت حسن النية”، فسيغادر فورًا دون رجعة.
بيئة الاستثمار لا تُبنى على الظن أو الاجتهاد القضائي، بل على نصوص واضحة صريحة تضمن الحقوق وتحميها، لا على معايير أخلاقية مبهمة تترك مصير الأموال والعقود للظروف.
العدالة ليست نوايا
الأخطر أن هذا النص يجعل من النوايا معيارًا للعدالة، وهو أمر يُفقد القانون صلابته، ويفتح المجال لمتاهات الإثبات التي لا تنتهي. فهل بات القانون يُحاسب على النوايا وليس على الأفعال؟! وهل يُعقل أن يُبطل تصرف قانوني ظاهره الصحة، ثم يُطلب من المتضرر أن يُثبت أنه لم يكن يعلم، وأنه لم يُرد سوءًا، وأن قلبه كان نقيًا؟!
الختام: دعوة لإلغاء النص أواعادة صياغته
إذا كان المشرع جادًا في احترام أبسط قواعد العدالة، فإن أولى خطوات الإصلاح هي إلغاء هذا النص أو إعادة صياغته بما يُحكم الضوابط القانونية الصارمة على حماية حقوق الغير، لا أن تُترك لرحمة قاضٍ أو لمزاج تشريعي ضبابي. إن المادة ٣٦٨ ليست فقط خطرًا على المدين الغائب، بل على كل من يتعامل معه بحسن نية أو بسوء تقدير. وأي قانون يجعل من النوايا أساسًا للحقوق، فهو قانون يزرع الخوف في قلوب الناس بدلًا من أن يحميهم.
“حسنوا النية” ليست سوى قناع زائف لتمرير نص هش، وشرخ في جدار الأمان القانوني يجب سده.
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com