البحث والتطوير بالاقتصاد العالمي ومعالجة التسعير التحويلي
في عالم الأعمال العالمي اليوم، تُعد الابتكار القوة المحركة الأساسية — وفي قلب هذا الابتكار نجد البحث والتطوير (R&D). بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات (MNEs)، فإن البحث والتطوير لا يقتصر فقط على كونه مصدرًا للملكية الفكرية والميزة التنافسية، بل يمثل أيضًا ساحة معركة محورية في مجال الامتثال الضريبي الدولي.
وبينما تتسابق الشركات لابتكار التكنولوجيا الجديدة وتطوير المنتجات، فإنها في الوقت ذاته تُجبر على التنقل عبر تعقيدات نظام تسعير المعاملات (Transfer Pricing) — لضمان خضوع الأرباح المرتبطة بالابتكار للضريبة في الدول التي تم فيها خلق القيمة الحقيقية.
البحث والتطوير: أصل استراتيجي يحمل تبعات ضريبية
غالبًا ما تؤدي مبادرات البحث والتطوير إلى إنشاء أصول غير ملموسة ذات قيمة عالية — من تقنيات مملوكة، وبراءات اختراع، وأسرار تجارية، وخوارزميات، ومعرفة تقنية. ووفقًا لتوجيهات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، يجب توزيع الأرباح المرتبطة بهذه الأصول على أساس الجوهر الاقتصادي: من يقوم بالعمل، من يموّله، ومن يتحمّل المخاطر.
هذا الإطار مصمم للحد من نقل الأرباح الضريبي — أي التحويل الاصطناعي للأرباح إلى دول ذات ضرائب منخفضة أو معدومة دون أن يكون لها مساهمة حقيقية في عملية البحث والتطوير. مجرد تسجيل الملكية الفكرية في “ملاذ ضريبي” لم يعد كافيًا. ما يهم فعلاً هو النشاط الحقيقي، وليس الشكل القانوني فقط.
تحديات غير مرئية في الامتثال للتسعير التحويلي
عندما يتعلق الأمر بالبحث والتطوير، فإن تسعير المعاملات لا يُعد فقط معقدًا — بل هو من أكثر المجالات المحفوفة بالمخاطر. إليك السبب:
معضلة DEMPE:
بعد إصلاحات خطة BEPS (تآكل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح)، أصبحت وظائف DEMPE (التطوير، التحسين، الصيانة، الحماية، والاستغلال) محور تحليل الملكية الفكرية. تحديد الكيانات التي تنفذ هذه الوظائف الأساسية — وتعويضها وفقًا لذلك — يُعد أمرًا جوهريًا. شركة تمتلك الملكية الفكرية دون أي نشاط حقيقي؟ علامة حمراء أمام السلطات الضريبية.
تقييم الابتكار غير المكتمل:
تقييم الملكية الفكرية في مراحلها الأولى يُعتبر من أصعب المهام. النماذج التقليدية مثل التكلفة زائد هامش ربح أو سعر السوق المقارن غير الخاضع للرقابة (CUP) نادرًا ما تعكس الإمكانات الاقتصادية الحقيقية للأفكار الجديدة. لذلك، يتم اعتماد أساليب أكثر تقدمًا مثل تقسيم الأرباح أو نماذج الخيارات المالية لمواجهة هذه التحديات.
ترتيبات تقاسم التكاليف التي تحتاج إلى تقاسم حقيقي:
تهدف ترتيبات تقاسم التكاليف (CSAs) إلى توزيع تكلفة وفائدة البحث والتطوير بين كيانات المجموعة. ولكن إذا لم تكن المساهمات متماشية مع الفائدة الاقتصادية الفعلية أو المخاطر التي تتحمّلها الأطراف، فإن النزاعات الضريبية ستكون حتمية. التوثيق المفصل والمراجعة المستمرة أمران أساسيان.
عندما يصطدم الشكل القانوني بالحقيقة التشغيلية:
من أبرز الأمور التي تثير قلق السلطات الضريبية وجود فجوة بين الهيكل القانوني والواقع التشغيلي. فإذا كانت الكيان الذي يمتلك الملكية الفكرية لا يضم موظفين للبحث والتطوير، أو لا يمتلك قدرة تمويلية أو سلطة اتخاذ قرارات، فمن المرجح أن يتم الطعن في الترتيب — وإعادة توصيفه ضريبيًا.
الامتثال ليس خيارًا: ممارسات مثلى للشركات متعددة الجنسيات
الشركات الرائدة تتعامل مع تسعير المعاملات في البحث والتطوير كأولوية استراتيجية. إليك كيف:
- توثيق حيّ ومحدث باستمرار:
يجب أن يكون التوثيق ديناميكيًا، يوضح بجلاء من يؤدي وظائف DEMPE، وكيف تعكس أسعار المعاملات بين الأطراف المرتبطة مبدأ السعر المحايد.
- التحقق من الجوهر وليس الشكل فقط:
إجراء مراجعات دورية للتأكد من تطابق الوظائف والموظفين والمخاطر الفعلية مع ما هو مذكور في العقود وسياسات التسعير.
- تكييف أدوات التقييم حسب الحاجة:
الأصول غير الملموسة في مراحلها المبكرة قد تتطلب نماذج تقييم أكثر مرونة وتعقيدًا من الأساليب التقليدية.
- تأمين ترتيبات تقاسم تكاليف شفافة وعادلة:
يجب أن تستند التوزيعات على التوقعات المستقبلية للفوائد، مع وجود آليات لضبط المساهمات كلما تطور المشروع.
- التخطيط المسبق لتحركات الملكية الفكرية:
في حالة انتقال الملكية الفكرية عبر الحدود، يجب التخطيط المسبق من الناحية التنظيمية، فهم التزامات ضريبة الخروج، وتوثيق التقييمات بدقة، لتجنب التعديلات المفاجئة.
المستقبل: مزيد من التدقيق والمساءلة
مع تسارع وتيرة الإصلاح الضريبي عالميًا، أصبحت ترتيبات تسعير المعاملات المتعلقة بالبحث والتطوير تحت المجهر. تركز السلطات الضريبية بشكل خاص على:
- الكيانات المسماة “صناديق نقدية” التي تُمَوّل فقط دون نشاط بحثي فعلي
- الفجوات بين توزيع المخاطر في العقود والواقع العملي
- نقل الملكية الفكرية بأسعار منخفضة خلال إعادة هيكلة الشركات أو تغيير نماذج الأعمال
في الوقت نفسه، يُعيد الإطار الجديد لمنظمة OECD ضمن BEPS 2.0، بما في ذلك الركيزة الأولى (إعادة توزيع الأرباح) والركيزة الثانية (الحد الأدنى من الضريبة العالمية)، تشكيل الطريقة التي تُفرض بها الضرائب على الأرباح المرتبطة بالأصول غير الملموسة وأماكن فرضها. هذا يعني مزيدًا من التعقيد — ومزيدًا من المخاطر — للشركات متعددة الجنسيات.
ختاما نستطيع القول ان مرعاه متطلبات السعر المحايد في البحث والتطوير لم تعد رفاهية
لم يعد البحث والتطوير مجرد محرّك للابتكار، بل أصبح أيضًا محورًا رئيسيًا للرقابة التنظيمية والمخاطر الضريبية. يجب على الشركات متعددة الجنسيات أن تنظر إلى هيكل البحث والتطوير لديها من منظور استراتيجي، يتضمن التطوير التقني والامتثال الضريبي معًا. هذا لا يتحقق بمجرد استكمال بعض النماذج. بل يتطلب الأمر ترسيخ الجوهر التشغيلي في البنية القانونية، وتطبيق نماذج تقييم تعكس القصة الاقتصادية الحقيقية. وفي عالم تتزايد فيه الشفافية الضريبية وتصر فيه الحكومات على نصيبها العادل من الاقتصاد الرقمي، لم يعد وجود استراتيجية فعّالة لتسعير معاملات البحث والتطوير أمرًا اختياريًا — بل ضرورة.
ولمن يُتقن هذا التحدي، ستكون المكافأة مزدوجة: تجنّب النزاعات المكلفة، وتحقيق القيمة الكاملة لأصوله الفكرية عالميًا. وفي اقتصاد اليوم، قد يكون ذلك هو ميزة التنافس الحقيقية التالية.
للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على info@eg.andersen.com