أمكانا حول العالم:

إصلاحات قانون مكافحة الإغراق في مصر

في لحظة فارقة من عمر الاقتصاد المصري، تقف المنظومة التشريعية عاجزة عن مواكبة تحولات السوق، وسط بيئة عالمية شديدة التغير، وتوازنات داخلية شديدة الحساسية. فعلى الرغم من كثافة القوانين المنظمة للتجارة وحماية المنافسة وحماية المستهلك، إلا أن العديد منها بات يعمل خارج السياق العملي الحديث، ويفتقد إلى الرؤية الكلية التي تربط بين الحماية الاقتصادية من جهة، والعدالة السوقية من جهة أخرى.

هذا المقال ليس فقط مراجعة للنصوص، بل هو دعوة لثورة تشريعية متزنة، تُعيد رسم العلاقة بين الدولة، والمستثمر، والمستهلك، والاقتصاد الكلي. فالسياسات لا تُقاس بنواياها، بل بقدرتها على صنع توازن حقيقي لا يظلم طرفًا ولا يُحصن آخر فوق النقد.

قانون مكافحة الإغراق: حين تُستخدم الحماية ضد المصلحة العامة

القانون رقم ١٦١ لسنة ١٩٩٨، والمعروف بقانون مكافحة الممارسات الضارة في التجارة الدولية، وُضع في زمن كانت فيه التحديات متمثلة في حماية الصناعة الوطنية من الإغراق والدعم غير المشروع. لكنه اليوم، في ظل سلاسل التوريد العالمية، بات يُستخدم أحيانًا ضد المستهلك نفسه.

غياب النص على تقييم المصلحة العامة كشرط إلزامي قبل فرض رسوم مكافحة الإغراق، أدى إلى قرارات اقتصادية تنحاز للشكوى، دون قياس أثر القرار على سلاسل الإنتاج، أو التوظيف، أو أسعار السلع الاستهلاكية. وهكذا، يتحول القانون إلى أداة ضغط تُستخدم من قبل منتجين قلائل، تُنقذهم من الخسارة بينما تُغرق الاقتصاد في دوامة التضخم وتعطيل النمو.

حماية المنافسة: الصمت في وجه الحصانة الاقتصادية

القانون رقم ٣ لسنة ٢٠٠٥ بشأن حماية المنافسة ومنع الاحتكار، رغم تطوره النسبي، إلا أنه يعمل منعزلًا عن قوانين الحماية التجارية. فحين تُفرض رسوم حمائية كبيرة دون تقييم لأثرها على السوق، تتكون بيئة احتكارية جديدة، تُغلق الباب أمام المنافسة الحرة.

التشريعات لا يجب أن تحارب الاحتكار فقط في السوق الحرة، بل أيضًا في السوق المحمية. عدم إلزام جهاز حماية المنافسة بالتدخل في قرارات الإغراق، يُفرغ دوره من محتواه، ويُحوّل الاقتصاد إلى ملعب مغلق تحكمه المصالح القطاعية الضيقة.

الجمارك والاستثمار: رسوم بلا رؤية تكاملية

قانون الجمارك الجديد رقم ٢٠٧ لسنة ٢٠٢٠، وقانون الاستثمار رقم ٧٢ لسنة ٢٠١٧، كلاهما يهدف إلى تسهيل بيئة الأعمال، وجذب الاستثمار. لكن الواقع أن الرسوم الوقائية والإغراق تُفرض أحيانًا دون تنسيق مع الجهات الاستثمارية، مما يؤثر على الكفاءة التشغيلية للمصانع، خاصة تلك التي تعتمد على المواد الخام المستوردة.

إن الرسوم التي لا تأخذ في الاعتبار تأثيرها على المستثمرين، قد تُفسد مناخ الأعمال، وتُضعف الميزة التنافسية لمصر كمركز صناعي إقليمي. وهكذا، يُضرب التصدير في مقتل، بحجة حماية إنتاج غير قادر على النمو الذاتي.

حماية المستهلك: الغائب عن المشهد التشريعي

قانون حماية المستهلك رقم ١٨١ لسنة ٢٠١٨، يُعد من أكثر القوانين جرأة في صياغته، لكنه غائب تمامًا عن دوائر التأثير الحقيقي في السياسات الاقتصادية. لا يملك الجهاز سلطة مؤثرة في قرارات تمس الأسعار بشكل مباشر، مثل قرارات الإغراق، رغم أن المستهلك هو المتضرر الأول.

الصيغة الحالية تُهمّش صوت المستهلك في عملية صنع القرار، وتضعه في موقع المتلقي السلبي، بينما تُدار آليات السوق فوق رأسه.

خاتمة: من التعديل إلى التكامل التشريعي

ما نحتاجه ليس تعديلات منفصلة في مواد القوانين، بل فلسفة تشريعية جديدة، تقوم على “تكامل الوظيفة الاقتصادية” بين الجهات. يجب أن تتحدث قوانين الإغراق، والمنافسة، والجمارك، والاستثمار، وحماية المستهلك، لغة واحدة: لغة المصلحة العامة.

بهذا، فقط، يمكن أن ننتقل من سياسة ردود الأفعال، إلى استراتيجية اقتصادية قادرة على التوازن، والاستدامة، والعدالة

 للرد على اي استفسار قم بملء النموذج او تواصل معنا على  info@eg.andersen.com

كُتب بواسطة

ماهر ميلاد إسكندر - الشريك المدير

إرسل رسالتك

Posts - Page Form Ar
Newsletter

door